إِنْشَادُ الشِّعْرِ فِي الصَّلَاة../ أحمد المصطفى
أَوْرَدَ مُوفَّقُ الدين محمد بن قُدامة المقدسي، رحمة الله عليه، في <كتاب التَّواببن> ـ ضمن “ذكر سبب توبة جماعة من الأمة رحمة الله عليهم” ـ قصة توبة رجل يدعى مُنَازِل بن لَاحق، وفيها أن أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب، كان يطوف ومعه الحسن ابنه رضي الله عنهما بالكعبة في ليلة مظلمة، وقد رقدت العيون، وهدأت الأصوات، إذ سمعا صوتا حزينا شجيا يهتف:
يا من يجيب دُعَا المضطر في الظُّلَمِ ـ ـ
يا كاشف الضر والبلوى مع السَّقَمِ
قــد نام وفـــدك حول البيت وانتبـهوا ـ ـ
وأنــــــــت عيـــنك يـا قيوم لم تنم
هب لي بجودك فضل العفو عن جُرمي ـ ـ
يا من إليه أشار الخلق في الحرم
إن كــــان عفوك لا يُدْرِكْــه ذو سـرَف ـ ـ
فـــمن يجود على العاصين بالكرَم
فقال عَلِيٌّ للحسن رضي الله عنهما:
يا بُني أما تسمع صوت النادب لذنبه، المستقيل لربه؟، الحقه، فلعلك تأتيني به. فذهب الحسن يبحث عنه فوجده قائما يصلي عند المقام.. (القصة بتمامها في الكتاب المذكور، وهي جديرة بالقراءة والتدبر)، والشاهد منها إنشاد الرجل لهذا الشعر في صلاته عند المقام من البيت، وعدم إنكار علي، والحسن، رضي الله عنهما عليه..ـ
فِي ترجمته لأبي الطيب المتنبي عند ذكر وفاته، ضمن أخبار من مات سنة 354 هجرية، قال أبو الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي في الجزء الحادي عشر من <البداية والنهاية> مستعرضا ما استحسنه الإمام أبو الفرج بن الجوزي من شعره: <<…ومنها قوله:
يــا من ألـــــوذ به فيـــــما أؤمـــله ـ ـ ومن أعـوذ بـه ممـا أحـــاذر
هلا يجبر الناس عظما أنت كاسره ـ ـ
ولا يـهيضون عظما أنت جابره
وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق، ويقول إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى، وأخبرني العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور (يعني ابن تيمية) يقول ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو الله بما تضمناه من الذل والخضوع..>>/ أ هــ ..ـ
تُورِدُ بعض كتب الأدب خبر توبة الشاعر الشهير أبي نواس، وفيها أنه ناجى الله سبحانه وتعالى، وهو ساجد بأبياته المعروفة الرائقة:
أيا من ليس لي منه مجير ـ ـ
بعفوك من عذابك مستجير
أنا العبــد المقر بكل ذنب
ـ ـ وأنت السيد المولى القدير
فإن عذبــتني فبسوء فعلي ـ ـ
وإن تــغفر فأنت بــه جدير
قلتُ: لا يصطدم إنشاد الشعر في الصلاة، على وجه الدعاء، بما في طرف من حديث في صحيح البخاري، ومنه <<..فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه..>>، لأن البخاري نفسه ترجم للحديث في كتاب الدعوات، بقوله “باب ما يكره من السجع في الدعاء”، وأفْهَمُ من استعماله في الترجمة لـ “من” المُبَعِّضَة أنه من السجع في الدعاء ما لا يكره، وقَيَّدَ أهل العلم كراهة السجع في الدعاء بالتكلف المانع من الخشوع، كما قال ابن حجر في الفتح عند الحديث المذكور، ونقل عن الإمام الغزالي، في نفس المكان قوله: “المكروه من السجع هو المتكلف لأنه لا يلائم الضراعة والذلة، وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازنة، لكن غير متكلفة..”..ومن تلك الأدعية قول النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب..”، وقوله: “صدق وعده، وأعز جنده..”..وعليه، فإنه إذا انتفى التَّكَلُّف عن السَّجع، أو الشِّعر ـ قياسا عليه ـ ولم يُذْهِب الإنشادُ الخشوع والتذلل، ارتفع الحرج، هذا والعلم عند الله.. تقبل الله مني ومنكم.