موريتاني .. وأفتخر / محمد فال بلال
التشكيك في الدولة الموريتانية ليس بالأمر الجديد. هناك محللون منذ البداية يرون أن التفكير – مجرد التفكير – في إمكانية قيام دولة قابلة للبقاء هنا أمر مستحيل … تارة بسبب البداوة والترحال، و تارة بسبب التخلف، و تارة بسبب عوامل التفرقة و الانشطار مثل تعدد اللغات والثقافات والأعراق والشرائح… كانوا يرددون أن لا شعب هنا يستطيع فعل شيء !؟ وسمعت أحدهم قال مرة: “إن المرابطين لما أرادوا إقامة دولة خرجوا من هنا وذهبوا بها بعيدا باتجاه المغرب و تخوم إسبانيا (ههه). ولا زالت بقايا من بقايا هذا النوع من التشكيك تطفو على السطح حتى الآن على نحو ما نسمعه من تحقير و تنقيص وازدراء، وبالذات عندما يحدثك أحدهم عن “الدخن”، وأهل “لخيام”، و عن العجز، والفشل، والدُّوَيْلة، و”اشعَيب السراق واللصوص”، الخ..في هذا السياق، اسمحوا لي أن آخذ دقائق من وقتكم لأحكي عليكم قصة قصيرة.
عام 1967، كان البلد يعيش مخلفات أحداث 66 الدامية. وفي يوم من الأيام، جاء السيد “البير” (Albert)، المستشار الثقافي في السفارة الفرنسية، كعادته للمدرسة لأخذ زوجته. ودعا بعض الطلاب من مختلف الأتنيات والأعمار والمستويات الدراسية لتناول العشاء في بيته داخل السفارة. وبعضهم ما زالوا أحياء يرزقون الحمد لله. وعندما حضروا هناك، سدّ عليهم الأبواب وفتح معهم نقاشا ساخنا حول اللغات والهوية وأحداث 66، أسبابها و مآلاتها. وامتلأت القاعة بالخصومات والشد والجذب والصخب .. وكادت الجماعة أن تصل إلى المشاجرة بالأيدي. فالتفت اليهم، وقال: ما دامت الحالة هكذا اليوم، إلى أين تذهبون؟ موريتانيا خطأ تاريخي، و زائلة لا محالة بعد عَقْد أو عَقدين من الزمن”. و على هذا الوعد الكارثي، انتهى الاجتماع.
لو كان السيد “ألبير” حاضرا معنا اليوم لقلنا له: السلام على من اتبع الهدى. أستاذ، ها نحن الآن في العَقد الخامس أو السادس بعد وعدك المشؤوم. وكادت السينغال أن تنشطر بسبب “كازمانص”. وكادت مالي أن تنقسم بسبب أزواد، وكادت ساحل العاج ان تنقسم بين شمال وجنوب، وثار أهل الريف في المملكة المغربية و القبائل في الجزائر، واهتزت المنطقة كلها واهتز العالم بأسره. وفشلت دول عديدة. واختفت أخرى وبرزت دول على انقاضها. وانهارت امبراطوريات كبيرة. وتغيرت خريطة العالم… وفي هذا السياق مرّت موريتانيا باضطرابات ومطبات مثل غيرها أو أقل من غيرها. وهي الآن موجودة، وتمارس مهامها السيادية بحرية واستقلالية.
ما الذي غاب عن الأستاذ “ألبير”؟الذي غاب عن “ألبير” هو قوة هذا الشعب وذكاؤه وعبقريته وقدرته على التكيف وتجاوز الصعاب والمحن. الشعب الموريتاني يختزن من الطاقات والمواهب والقدرات ما لا يدركه عقل الأوروبي والأجنبي عموما وكثير من النُّخب المذهولة والمنبهرة بالأنماط والنماذج المستوردة. لقد استطاع شعبنا حماية نفسه وهويته ووحدته وأرضه ودولته. واستطاع حتى الآن الوقوف في وجه عاتيات الزمن، واقفا على قدمين راسختين في شخصيته، هما : المرونة (la flexibilité, la résilience) والتكافل (la solidarité, l’entraide). يقول Thucydide، مفكر “أثينا” : “لا تكمن قوة المدينة في سفنها ولا في أسوارها، بل في شخصية مواطنيها”. لقد استطاع شعبنا بكل مكوناته الوقوف منذ القِدم و حتى الآن في وجه العواصف والزلازل بثنائي التكافل والمرونة، بمعنى التضامن والقدرة على التحمل والتأقلم والتكيف مع الظروف والمتغيرات. بذكائه الفطري يعرف كيف يقلب الموازين ويغيّر الخطط ويضع البدائل سريعا في حال مواجهة انسداد أو فشل أو مطبة هنا أو هناك، إلخ..
حمل السلاح في وجه المستعمر، وقدم شهداء دفاعا عن الأرض والكرامة، وواصل المقاومة مدنيا وسياسيا حتى نال الاستقلال. واستطاع تأسيس دولة مركزية بدءًا من لا شيء. لا بنى تحية، ولا فوقية. وفرض لها الاعتراف الدولي. وبسط نفوذها على جغرافية (مليون كم2 وزيادة) بما فيها من أمراء و مشايخ وقبائل. وواجه الحرب والكوارث الطبيعية والبيئية وموجات الجفاف التي سحقت منطقة الساحل، والتصحر، و زحف الرمال. وتصدّى للأوبئة الفتاكة (الكوليرا والملاريا، واليوم يواجه كورونا). وحارب جماعات الإرهاب والتطرف والغلو، وانتصر عليها. وبلدنا اليوم من أحسن بلدان المنطقة تحصينا وأمنا. وتحمل الأحكام الاستثنائية وبطشها، و صاغ دستورا يكفل دينه وهويته ولغاته وتنوعه. وخاض تجربة ديمقراطية تخللتها عثرات وهفوات. حقق التناوب السلمي على السلطة، وأقام مؤسسات غير كاملة ولا كافية؛ لكنها موجودة وقابلة للإصلاح. وهذا بالطبع لا ينفي كونه أضاع فرصا عظيمة، وتأخر كثيرا بسبب سوء التسيير وفساد النخبة. الكأس ليست ممتلئة – بعيدٌ من ذلك يقينًا – ولكنها ليست فارغة أيضا. وإذا كان بالإمكان أحسن مما كان، فقد كان بالإمكان أسوأ مما كان أيضا. والحمد لله رب العالمين.
هذه هي موريتانيا الأصالة والمناعة. لن يضرها شيء ما بقيت على إرادتها القوية ومرونتها الذكية واستعداد شعبها للتكافل والتضامن. وهي اليوم بين أيديكم، أنتم الشباب. وتنتظر منكم النقد البناء واقتراح البدائل النافعة وإحياء جذوة القيم والمبادئ والعمل المثمر، لا الشتم والذم والتجريح بها وبشعبها العظيم. ثقوا في أنفسكم، وبلدكم وشعبكم “الأدخن”. كونوا إيجابيين وسيعلم “ألبير” ومن على شاكلة “ألبير” أنهم كاذبون، وأنّ موريتانيا باقية ومنتصرة دَائما وإلى الأبد .. إن شاء الله.
رمضان مبارك، وتقبل الله مني ومنكم الصيام والقيام ، وضاعف لي ولكم الأجر.