أختنا “وَخْيَرْتْ”…/ المرتضى محمد أشفاق
ستْرُ الأنا، وقَصُّ مناطق تَوَرُّمِه شيمة راقية من صفات التواضع والابتعاد عن الانبهار بالذات والحديث عن النفس تزكية وتعاليا .. كان الرجل- عندما كانت الأيام صافية وهي صائفة، وعندما كان البدر فخورا بقداسة استدارته، يرفض توسع مناطق الإضاءة فيه إلى مناطق الإعتام اعتداء أو احتواء، لا يرشو المساحات الصغيرة فيه بتمييز، ولا يمنحها مساحة لا تناسب حجمها الصحيح- كان يقول هذا المُسَمَّى بصيغة اسم المفعول ويسند كل أحاديثه إلى مجهول تواريا، وحياء من استشعار المخاطبين باحتكار محمدة، أو ارتقاء شاهق وتركهم في منخفض، أو إقصاء آخر…
كان يتلعثم ويستنجد قاموسه اللغوي للعثور على كلمة بديلة تنجيه من سوءة التشدق باسم أسرته، أو قبيلته زهوا أو عجبا ..
المثل اختصار دقيق وكثيف لمذهب في الحياة، وعصارة تجارب المشترك، فقالوا: ” شَكَّارْ رَاصُ مَحْكُورْ”، و ليس ذلك غريبا على أمة في كتابها (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى)…
أعود وقد طال الاستطراد إلى أختنا “وَخْيَرْتْ” وقد أصابها ما أصابنا من ميوعة، وأصاب حياتنا العامة من تزوير، وغش، وتحريف مقصد، وتفريغ عبارة من محتواها..
يطلق الناس اليوم” وخيرت” على المتصل المجهول، والمذكور النكرة، حتى صار البعض فيها كالمصابين بسلس البصاق، والمولعين بفضول إخراج أسلاك الريق من فجوة الثنايا العلوية (الْفَلْجَهْ) كخراطيم شديدة الدفع كانت كافية لتفريق اعتصام ساحة ابن عباس في تلك الليلة المشهودة بكلفة أرخص…
وكان بالإمكان تسويق( المفلجين) إلى السيسي لفك اعتصام رابعة بأضرار أقل، وبأجور تنفع الفقراء، وتحل مؤقتا مشكلة البطالة المؤرقة…”الفَلْجَهْ” تكون أحيانا أوسع من معبر “الكركرات” ومن منبسط سهل إينشيري، لو أن شاحنات تماته وكاروت سلكن فجها، لنجا السائقون من زحمة الطواببر، وغصت السوق بالخضروات فجة وناضجة غير عوراء ولا مثقوبة…عفوا، أنا كما كان يقول لنا الأستاذ جمال ولد الحسن رحمه الله مصاب بداء الاسترسال …
في بداية نشأة الأحزاب السياسية وقبل أن تشيع فينا فاحشة التشظي، والانقسام الخلوي المايوزي، إن كنت مازلت أذكر هذا السؤال الذي سألنيه الأستاذ العراقي محمد مجهود في شفهي بكالوريا1981، كنت مع المرحوم الكوري ولد أداع، عندما زاره أحد مشاهير الوطن ورموزه السياسيين المعارضين زيارة مجاملة، لأنه يعرف أن القبائل رحلت إلى الشيخ سيد أحمد ولد باب لإعلان البيعة لمعاوية، وتعجلت عن رسل التبشير والدعاية، والمعلوم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم في بداية الدعوة كان يتنقل إلى الناس ويبعث الدعاة، لكن الله مكن لمعاوية ولد الطايع تمكينا لم يمكنه أحدا من حكام هذه الديار، وبعث في قلوب القبائل الطمع فيه، والخنوع له، فلم يغرق حاكم قبله ولا بعده في مثل ما غرق فيه من بحور الشعري-جيده ورديئه- فعبدوه، وسبحوا باسمه عشيا وحين يضعون رؤوسهم على مخدات القيلولة، فآمنوا بدعوته-مؤمنين ومنافقين، وأكثرهم المنافقون- قبل أن يخرج بها شيطان وحيه من رحم صناعة الترغيب والترهيب والترويج لثقافة التملق والتزلف والتدجين، أقول وقد طال الاستطراد كما كان يفعل المرابط المرحوم محمد سالم ولد عدود حين يذكر في بداية محاضرته موضوعها، ثم يأخذ الناس في سياحة علمية ممتعة ومؤنسة، تقودهم أحيانا إلى المربد وعكاظ، وانبجاس قريحة النابغة في الشيخوخة بعد رشحها في الشباب، وطورا إلى التابعين من العراق، وأحيانا إلى أنساب القبائل، وقد ذكر لي مُزَكَّى عَدْلٍ-ومزكى العدل عدلٌ- أن شيخنا حمدن ولد التاه حفظه الله قال إن المرابط محمد سالم ولد عدود هو وحده من يستطيع “اتْكَاصْكَادِي في أنساب القبائل ما عَدَّلْ شَوكْ” وكلما استشعر المرابط طرب الجمهور عاد به إلى الموضوع فلا يشعر بملل ولا يسرق نعاله فرارا من رتابة الإلقاء، كما يفعل المصلون بعد صلاة الجمعة مع محاضر في التركة لا يشرد عنها إلى ظل الحواشي في يوم قائظ…
سلم الضيف المكرمون على السيد الكوري ولد أداع فأقاموا ما شاء الله لهم أن يقيموا في رحاب قيم الترحيب، وتفنن في زخرفة مراسيم السلام الموشى بكنوز التاريخ ومعادن الجغرافيا، فقال الكوري في بداية حديثه إلى الضيف السياسي الكبير: “وخيرت ابوالدك، أنت ما نعرفك”..لحظة صدق لن تغيظ الضيف لصراحة مخاطبه..وأي يغضب من مدح أبيه…؟!