وأخيراً.. يشهِّرون بالفساد! / محمد المنى
ما أروع أن يتحدث المسؤولون العموميون (عسكريون كانوا أم مدنيين) كشهود على المراحل التي شغلوا فيها مناصب رسمية، وأن يقدموا حولها الحقيقةَ كما علِموها واطلعوا عليها، دون خوف ولا مجاملة، لا نكايةً بأحد ولا إكالة مديح لآخر. لقد استمعت اليوم لمقابلة مع العقيد والوزير السابق محمد ولد لكحل حول حرب الصحراء وما اكتنفها من مشكلات ومصاعب وشبهات، حيث اتّهم العديدَ من الأشخاص والجهات، بما في ذلك الرئيس المختار ولد داداه الذي نعته بالضعف، وكذلك ضباط الجيش الذين اتهمهم بالجبن وقال إن الكثيرَ منهم هرَبوا من ساحة المعركة متذرعين بمبررات طبية، وإن الطيارين منهم رفضوا نقلَ الأسلحة والذخائر لجنودنا خلال معركة آوسرد. كما اتهم المدير العام لشركة «سنيم» في حينه، إسماعيل ولد اعمر، بالتوقف عن مد الجيش بالوقود، مما شلَّ حركة وحداتنا العسكرية وكاد يقضي عليها. أما التهمة الأكبر والأخطر في المقابلة فهي قوله إن السعودية أعطت بلادَنا شيكاً أبيضَ لشراء احتياجاتها من السلاح، لكن قيادة الأركان أبرمت صفقةً فاسدةً مع جهة إسبانية ما (لم يحددها)، وذلك بالتمالؤ بين قائد الأركان شخصياً امبارك ولد بونه مختار وشقيقه أحمد سالم (رجل الأعمال الحالي) الذي كان وقتَها سفيراً لبلادنا في مدريد، حيث تم تزويد الجيش بسيارات ومعدات قديمة غير صالحة للاستعمال. ورغم أنه في هذه يتهم الجيش بالخيانة والتآمر على نفسه، فهو يعتبر أن صفقةَ السلاح الإسباني كانت سببا رئيسياً وراء انقلاب ضباط الجيش على الرئيس المختار! على كل حال هناك معلومات متضاربة وآراء متعددة حول بداية التفكير في الانقلاب على الرئيس المختار، منها ما أفادنا به ولد الكحل نفسه في هذه المقابلة، وخلاصته أن التفكير في الانقلاب بدأ مع معركة آوسرد حين واجه العسكريون مصيرهم دون أي مدد. ومنها ما ذكره المختار في مذكراته حيث تحدث عن اجتماع نظَّمه مع كبار الضباط في أكجوجت، وفيه وجّه إليهم كلاماً صريحاً وصارماً خلاصته أنه لا يريد استمرار الحديث المتداول في الشارع حول فساد بعض القادة العسكريين وحول قيامهم بالتربح من الوسائل المخصصة لوحداتهم، لاسيما الوقود والمؤونة الغذائية، وإنه حفاظاً على شرف العسكرية وصيانةً لصورة الجيش ولحقوق الجنود فسيضطر لفتح تحقيق في الموضوع وإحالة المتورطين على المحاكمة العسكرية. يقول المختار إنه كان قاسياً في تحذيراته بذلك الشأن، وإن هاجساً انتابه على الفور من أن تؤثر تلك التحذيرات على معنويات الضباط وهم يخوضون الحرب نيابةً عن الوطن، كما يعرب عن الاعتقاد بأن إصراره على المساءلة كان سبباً رئيسياً وراء انقلاب 10 يوليو.. لكنه يستدرك قائلا إن ذرةً من الندم لم تخامره في أي لحظة على التصرف وفق ما يمليه عليه ضميره وواجبه الوظيفي، أي رفض الفساد والتحذير منه والتشهير به ومحاربته بكل الوسائل والإمكانات، أياً كانت النتائج المترتبة على ذلك.أما الرواية الأخرى حول بداية التفكير في الانقلاب والتخطيط له، فقد وردت على لسان أحد قادة جناحه المدني في مقابلة صحفية مطولة منشورة قبل عدة أعوام من الآن، وفيها أفاد بأن البداية تعود إلى عام 1967، أي قبل حرب الصحراء بعشرة أعوام، عندما اتفق مع زميله في المدرسة الثانوية على أن يتوجه الأخير إلى العسكرية ويتوجه هو لدراسة السياسة والاقتصاد، بهدف تنظيم انقلاب والإمساك بالسلطة.. وهو ما كان بالفعل.
وبالعودة إلى حديث ولد لكحل حول الوضع الميداني ونقص التموينات، نتساءل: كيف يصح أن تكون موريتانيا في يوم 10 يوليو 1978 تحكم قبضتها على كامل ولاية تيرس الغربية (وادي الذهب)، بينما قواتها تعاني من نقص الوقود والذخيرة والتموينات؟ وكيف يمكن لقضية مثل شراء أسلحة فاسدة أن يتقبلها أو يتغاضى عنها وزير الدفاع محمذن ولد باباه المعروف بصرامته في تسيير المال العام والحفاظ عليه؟ وإذا فاتت على وزير الدفاع فكيف تفوت على الرئيس المختار نفسه الذي وصلته معلومات بشأن قضايا أقل أهمية، مثل بيع الوقود المخصص للجيش، وأثارت حفيظته إلى الحد الذي يصفه في مذكراته؟ وهل يمكن للمختار نفسه أن يتسامح مع فساد بهذا الحجم وهو الذي خسر بعض أعزاء أصدقائه وأقربهم إليه بسب مجرد شبهات فساد بسيطة؟
وإذا كانت اللجنة العسكرية قد تحدثت بعد انقلابها على النظام المدني عن جميع أخطائه ومثالبه وخياناته، الحقيقي منها وغير الحقيقي، ووصفته بـ«نظام الرشوة والخيانة»، وخصصت لذلك برامج إذاعية وصفحات طوال عراض من يومية «الشعب».. فما الذي منعها من الكشف عن فضيحة كهذه إن كانت قد وقعت بالفعل؟ ولماذا لم تقدِّم اللجنةُ أياً من ابني بونه مختار للمساءلة، وبدلا من ذلك نجد أنها عينت العقيد امبارك ولد بونه مختار نفسَه سفيراً في برلين؟ وكيف لا تطلع اللجنة العسكرية على موضوع بهذه الخطورة، وهو أحد الأسباب الأساسية لانقلابها، كما يقول ولد لكحل، ويطلع عليه هو رغم أنه ليس عضوا فيها ولا مشاركا في الانقلاب؟
وإذا كان إسماعيل ولد اعمر قد أوقف بالفعل مدَّ الجيش بالقود في لحظات حساسة وخطرة من الحرب، فما الذي منع اللجنة أيضاً من محاكمته هو أيضاً باعتبار أنه عرَّض حياةَ الجنود والضباط والوطن ككل لأخطار لا يعلمها إلا الله؟ ثم أليس من المحتمل أن تكون قصة “الأسلحة الفاسدة” مجرد استنساخ مكرر لقصص “الثورة” بقيادة ضباط الجيش في بلدان أخرى؟
وكملاحظة عامة، فإنه لم يحدث أن وقع انقلاب في تاريخ العالَم كله لم يحرص منفذوه ومؤيدوه والمشاركون فيه والداعمون له على تصوير وضعية ما قبل انقلابهم بكل ألون السوء والفساد والفشل والبؤس، وإلا فلن يكون للانقلاب من الدواعي والمبررات إلا الدوافع الذاتية لأصحابه فحسب، وهذه ما يريد الانقلابيون دائماً مداراتها والتغطية عليها بالحديث عن الوطن واستشعار المسؤولية حياله وضرورة إنقاذه من الهلاك المحتوم!
وكملاحظة خاصة، فإنه من المفرح والسار أنه بعد أن صادفتك خلال تجوالك في الداخل الموريتاني قطعانٌ ضخمة من الإبل ترافقها سيارات وشاحنات عسكرية والعديد من الجنود الذين يشرفون على رعيها وسقيها، أن تسمع أيضاً -ولو بعد سبعة وعشرين عاماً- صاحبَ تلك القطعان الضخمة نفسه متحدثاً عن الفساد على سبيل التشهير والإدانة!