من ولد بالوظيفة يموت بالتقاعد / المرتضى محمد أشفاق
تابعت مرة المرابط محمد سالم ولد عدود ضيفا على إحدى فضائيات الشرق، سأله الصحفي المحاور عن شعوره بعد أن تقاعد عن العمل، فأجابه المرابط قائلا إن المتقاعدين صنفان، صنف يولد بالوظيفة، وصنف يموت بالوظيفة، أما الصنف الذي يولد بالوظيفة فيموت بالتقاعد وهم الذين لا يسمع لهم ذكر قبلها، وأما الصنف الذي يموت بالوظيفة فيولد بالتقاعد وهم العلماء ومن في صفهم لأن الوظيفة تعطل كثيرا من أعمالهم وأفكارهم، وتشغلهم بها عن العطاء المستمر..
لكننا نلاحظ اليوم مهزلة غريبة ضحيتها المتقاعد، وهي استمرار الناس في ندائه بلقب وظيفته السابقة، وقد يخلعونها على المعزول، فكرم اللسان لا حدود له، والناس يعطون ما وسعهم القول، فإذا اقتربوا من حمى الفعل ولوا مدبرين، لأن (الْسان بلْسان ولَيْدْ مَكْرُوفَهْ)…
إن رضى المتقاعد بمنحة اللقب الساخرة بلاهة، لما تحويه من معاني المواساة والعزاء، وما يتوهمه الناس مصيبةً في التقاعد، وحنينا إلى عز مدال، أو مأساة في العزل، وقد قيل إن العزل هو طلاق الرجال…المدير السابق، والوزير السابق، والعقيد السابق، وحتى الرئيس السابق هذه عبارات انتهت صلاحيتها، فهل يجوز أن نسقي الموصوفين السابقين بها شرابا منتهي الصالحية، أليس في ذلك من المخاطر ما قد يؤدي إلى الوفاة؟…
أطلق طه حسين في سخرية معروفة على توفيق الحكيم اسم الدولة، متهما إياه بالانحياز إلى الدولة ممثلة في السلطة، بدل الانحياز إلى الشعب، وفي نهاية المقال قال حسين والآن سأتحدث إلى توفيق الذي ليس دولة وليس شيئا يشبه الدولة…
أعيدوا إلى أصحاب الألقاب الميتة أسماءهم الصحيحة، فلم يعد مدير سابق مديرا ولا شيئا يشبه المدير، ولم يعد عقيد سابق عقيدا ولا شيئا يشبه العقيد، ولم يعد رئيس سابق رئيسا ولا شيئا يشبه الرئيس..مر رئيس سابق على وقفة صغيرة في قرية ريفية، بها عامل بسيط يبيع الطعام للمسافرين، يقول العامل فعرفته، وبسطت له مطلة رثة وحيدة في العريش، ولما شرب، وتناول الكأس الثانية، قال أنت من الفولانيين أليس كذلك؟ كنت اتخذت قرارا بكذا عندما كنت رئيسا، لأهل كذا، أرجو أن يكون ما زال ساريا، زعم العامل -وهو صاحب فطنة وذكاء- أنه قال في سره آمنت بالذي هذا صنعه، رئيس سابق يكشف لي-أنا الذي لم أحلم أن أراه وهو حاكم- قراراته الرئاسية السرية…
ما كنا نخاطب المرابط محمد سالم ولد عدود بعد تقاعده بالسيد الوزير، ولا نطلقها اليوم على علمائنا الذين مروا ذات تعيين بالقصر الذي لا أعرف لونه لأني لم أره قط، فما ذنب غيرهم من المسلمين المحرومين من أسمائهم الصحيحة..؟اسم واحد صحيح خير من سفر من الأسماء الكاذبة…
زعموا أن فرنسيا يدعى(آنْجْ) كان حاكما في ألاك أيام الفرنسيين، ووفدت إليه جماعة في خليط من عامة الناس وغنوا له رجاء أن يكرمهم بأعطية ينسون بها شظف العيش، وشحوب الأيام، تفقد الحاكم محفظة نقوده، وتحسس في تجاويفها، وأخرج لهم(بِكْنِ)، وهو أصغر وحدة نقدية في تلك الأيام، ولما لاحظ على وجوه القوم(تَوْزِزْتْ) الشديدة، قال لترجمانه: قل للقوم إن (بِكْنِ) واحدا خير من كل الكلام…