حاضر غير ملخل الثقة في “القدوات” ومستقبل بأيدي ناقصي التربية/ سيد احمد ولد باب
في الطريق إلى المدرسة ذات صبيحة، أحرجتني بنتي بسؤال كالآتي : – لماذا يضع الرياضيون في الدول المتقدمة أياديهم على صدورهم و يرددون خاشعين، سلامهم الوطني في الملاعب في الوقت الذي، يسدل فيه رياضيونا نحن أياديهم و لا يرددون شيئا بل و يغمضون أعينهم في انتظار انتهاء النشيد…؟ يا إلهي كيف عرفت هذا !و جاء سؤالها هذا في أيام، فيها أخذ و رد غير مسبوقين في أمور مريرة هي الأخرى و تتعلق بنوايا قدوات مجتمعنا… لم أتفاعل معها حول استفسارها المزعج… التفت عنها حتى لا تقرء في ملامح وجهي جوابا قد يثبط همتها… فهي مشروع إنسان مقدس بالنسبة لي و للسلامات الوطنية علاقة مقدسة قوية بزرع الهمم و العزائم في قلوب الأشبال…. فأنا ككل أب، لا أريد أن أترك بعدي في هذه الدنيا الانتقائية ابنة ضعيفة هزيلة الهمة…
كأنها بهذا السؤال، زادتني انزعاجا على انزعاجي الأول : فلا الحاضر مطمئن في مجتمع يشك في قدواته و لا المستقبل آمن على أبناء تخصهم تربية مدنية و وطنية لائقتين…. فما كان لي إلا أن أكتب لتفريغ ما أمكن من غمي. لابد أنه في البدء، كان الإنسان يعيش بأياديه و أنيابه…و كان ذلك قبل أن يكتشف الحديد بين ثنايا الصخور و قبل أن يكتشف أن احتكاك الأشياء يولد النيران…
و كان ذلك قبل أن يعرف أن زرع البذور يعطي حصادا كافيا لتأمين القوت أيام الشدة… و أن تربية الأبقار الكريمة تعطي بسخاء لحما طريا و حليبا طازجا…و كان ذلك في تلك الفترة هو كل الرخاء…ثم شاءت الأقدار أن ينتبه لشيآن. و هما الشيآن اللذان سيغيران حياته بالكامل. أحدهما هو قوة الرياح لما لاحظ عجز أطفاله عن تثبيت قطعة قماش في مهب الرياح. و الثاني هو قوة البخار لما رأى كيف طار غطاء قدر غلى لتوه على جمر حي…. و بناء على هاتين الملاحظتين أسدل أشرعته بسرعة على سفن من خشب و ركب محركات بخارية في قطارات و حمل معه حديدا و نارا و جاب الدنيا بأسرها و جلب خيرات كثيرة لذويه… و كان ذلك في تلك الفترة هو كل القوة…هذا و شاءت الأقدار أيضا، أن يتعلم بعد ذلك، بعضا من أسرار الطبيعة. فاكتشف أن في جوف الأرض محروقات أكثر نفعا من الفحم و من بخار الماء بكثير. كما اكتشف كذلك في وقت لاحق أسرار الكهرباء… فتحركت السيارات في كل الأماكن و طارت الطائرات إلى كل البقاع و صنعت آلات عجيبة تريح الانسان من كل أعماله. تلك الأعمال التي تتفاوت من طحن الخضروات في مطبخه الصغير إلى تفريغ شحنات البواخر العملاقة إلى تثبيت و إصلاح الأقمار الصناعية في السماء… و كان ذلك في تلك الفترة هو كل التطور… هذا و شاءت الأقدار أن يكتشف مؤخرا، سحر جديدا. و هو سحر الألياف الضوئية الذي سيمكنه من بناء ذكاء إصطناعي يتحكم في عقل كل البشرية…و هي الخطوة التي سيتجاوز فيها الإنسان عالم المحسوسات التقليدي ليسلم نفسه لعالم رقمي مخيف… و ما كانت عبقرية الإنسان هذه، التي أوصلته إلى كل هذه المراحل المتقدمة بدون مخاوف. فلابد أنه لا يجهل أن ذلك التقدم أثر سلبا على حرارة مسكنه الذي يتصحر أكثر فأكثر في طرف و الذي يذوب جليده أكثر فأكثر في طرف آخر و هو المسكن الذي عرف تزايدا رهيبا في أمراض مميتة لم تكن معروفة مسبقا و هو المسكن الذي انقرضت منه كائنات جميلة لا ذنب لها… و هو يعلم الآن علم اليقين أن ثوراته التقدمية هذه، ما لم يحذر، قد تكون كتفاحة آدم عليه السلام بالنسبة له. فقد تعيده إلى المهد، زمن الأنياب و الأيادي، في أحسن الأحوال و قد تتسبب في اختفائه نهائيا في أسوئها…
هكذا إذا هو مسار موكب الإنسان بشكل مختصر جدا في منظوري المتواضع. و لكن ما كل إنسان في هذه المعمورة حظي بهذا المسار الصائب أو الخاطئ الذي يكتبه التاريخ عن البشرية جمعاء. فهناك من الناس من هم حقيقة أقرب إلى عالة على هذا المسار أو على الأصح أقرب إلى مفعول فيهم فيه… و نحن هنا في هذه الربوع القاحلة من ضمن هؤلاء المفعول فيهم في هذا المسار المغيبون عن ركب التاريخ…الجامدون كالتضاريس على طريقه…
و مما يؤكد ذلك هو أن واقعنا الحالي بدأت بوادر تشكله مع حدث غريب. إنه تحطم مركبة على سواحل انوامغار. تلك المركبة التي كانت تقل على متنها رجالا مات أغلبهم غرقا. و هي المركبة التي خلد ذكرها الفنان Géricault بتحفة فنية فيها كثير من الإبداع، أسماها Le radeau de la méduse.
و كان من بين الناجين مستكشف إسمه ريني كايي (René Caillié). و ريني كايى سيتوجه بسرعة إلى سهول لبراكنه و سيدعي هناك أنه مسلم خوفا على حياته و أنه جاء بحثا عن العلم. فوجد عند البدو كل ما يريد، تعلم بسرعة عادات البيظان و الحسانية و العربية و علوم الدين و انصهر في المجتمع الذي أسمي فيه بولد كيج النصراني. و لما أخذ حاجته من ثقافة و علم أهل الأرض جاب البلاد و العباد متتبعا خطى ابن بطوطة، تحت عباءة ظاهرها الدعوة إلى الإسلام و حقيقتها استكشاف استعماري إفرنجي يمهد لمجيء زملاء له كثر لاحقين. و من أبرز هؤلاء، كابولاني الذي انصهر هو الآخر في ثقافة المجتمع و عاش فيه حتى مماته و جاك فوكار صاحب افرانس-أفريك. و هما حقيقة من أسسا فينا دولتهما الحالية التي حصرتنا في ‘عفن’ الرجعية و التخلف و التبعية الذين نقبع فيهم حتى الآن. فقد غللاننا هذين الرجلين بالخصوص، ممثلان بلدهما، بتاريخ مزور و قيداننا بهوية مغشوشة و أضعفاننا بالاستفراد بنا المهين عن الأمني و الحضاري و كبلاننا بهشاشة بنيوية ظالمة… فهما من يتحملان المسؤولية الأولى في وضعنا الحالي الذي يشبه إلى حد بعيد وضع قوم محشورين في إصطبل محكم الإغلاق، حيث يشاهدون بشكل أزلي على مصادرة آدميتهم و استنزاف خيراتهم….نعم هذا هو حالنا و إن كنت أتمنى أن أكون مبالغا أو حتى مخطئا…و حال كهذا، كفيل بتفسير تحير ابنتي من عدم بكاء رياضيينا – هكذا تعجبت – عندما يعزف نشيدنا الوطني.
و هذا الحال كفيل أيضا بتفسير وجود تلك الأصوات النشاز عن واقع مجتمعنا، المطالبة بصون نضارة قدواتنا… و في حال كهذا و في مرحلة من تطور التاريخ البشري كهذه التي يتحكم الذكاء الإصطناعي فيها في العالم، من السهل حقيقة أن يبيع الإنسان الكريم نفسه للشيطان دون أن يعلم… و يبقى أن هذا الحال لا يطاق و أنه لا بد من فرج منه… !
و لعل الفرج يبدأ دائما بحلم تتحرر فيه الأنفس من كل قيود الواقع و تتنفس فيه الأرواح عبق الكبرياء الجميل… فلنحلم قادة و قاعدة، بذلك و لنكتسب همة عالية بتحقيق حلمنا و لنتسلح بإرادة صلبة من أجل ذلك سيستجيب لنا القدر…و قد يتحقق حقيقة حلمنا مثلا، بمراجعة جادة لمفهوم الوطنية و المدنية civisme et citoyenneté في كل واحد منا، قدوة و قادة، نخبا و شعبا. و لنا في الأيام التشاورية القادمة، و غيرها فرص تاريخية لتحقيق ذلك الاعتاق و يكفينا فقط أن نقسم فيها، بالنازلات الماحقات أن نحيى… و سنحيى بإذن الله. دمتم جميعا و دام كل حالم مثلي بغد أفضل بألف خير…