الماضي والحاضر والمستقبل / محمد فال بلال
من المفيد إجراء نقاش عقلاني وهادئ حول ماضينا المشترك، خاصة فيما يتعلق بآثاره ومخلفاته التي ما زالت تسهم في إضعاف الحاضر.ليس هناك من سبب للإحراج أو الانزعاج أو الامتعاض لفتح مثل هذا النقاش أو المشاركة فيه. فما من مجتمع في العالم إلاّ وقد مرّ في حياته بحِقب مظلمة. ومن أحلك الحِقب في تاريخ البشرية: الرق، والاستعمار. ونحن عشناهما معًا بألم وشدّة، وما زلنا نعاني من آثارهما البشعة.
حديثي اليوم سيكون خاصا بموضوع الرق، على أن أتناول موضوع الاستعمار الأجنبي الذي هو شكل من أشكال العبودية في مناسبة أخرى، بحول الله.إن الكلام عن الرق هو الكلام عن نمط إنتاج مارسته كل المجتمعات البشرية دون استثناء. نمط إنتاج بدائي ومتخلف يقوم على تقسيم العمل بطريقة تؤدي إلى تصنيف المجتمع فئات: نبلاء، حِرفيون، مزارعون، رعاة، عبيد. ومع تطور وسائل الإنتاج تحول النظام العبودي شيئا فشيئا إلى نظام المشاركة في المحصول، ثم نظام ما قبل الرأسمالية، ثم نظام الرأسمالية واقتصاد السوق. ومع كل نظام إنتاج جديد تظهر بنية اجتماعية جديدة.. وهكذا وصلنا اليوم إلى نظام المال والأعمال، حيث لم يبق من البنية الإقطاعية القديمة سوى آثار الفقر والغبن التي تكبل أبناء الأرقاء السابقين وغيرهم من ضحايا الإقطاع، و شتات قبائل مهزوزة تعيش على وهم أمجاد ذهبت ولن تعود.
مرّ العالم بأسره بهذا الماضي المؤلم، وما زال يعانى من إرثه الفظيع. وأقول وأكرر: ما من دولة في العالم ولا مجتمع من المجتمعات إلّا وله نصيب معلوم من مخلفات الاستعباد، أو الاستعمار، أو هما معا.. فالعالم الغربي مثلا، يواجه اليوم ماضيه الاستعبادي وتجارة الرقيق وجرائم الغزو، والقهر، والاستغلال، والنهب، وإنكار الهوية والكرامة في حق الشعوب والأمم المستعمرة.والقارة الافريقية من جهتها تواجه – بدرجات متفاوتة – آثار ومخلفات العبودية و التراتبية الاجتماعية وما ارتكب فيها من ظلم، وغبن، واضطهاد، واستغلال؛ بالإضافة إلى الإرث الاستعماري الذي هو أحد أسباب فقرها وتخلفها الحالي. وإذا كانت القارة الافريقية عرفت العبودية كلها، فإننا نتميز عنها باستثناءات، أذكر منها الظاهرة العرقية (الاختلاف في اللون)، وتأخير الوعي بالمسألة، والتردد والارتباك بشأنها.
ما هو المطلوب الآن؟
المطلوب الآن هو معالجة هذا الإرث الثقيل بما يخدم الحاضر ويهيئ لمستقبل أفضل. الحل ليس في “محاكمة التاريخ”، و “النبش” في الماضي عن ما يفرق أكثر مما يجمع. وليس من العدالة والإنصاف محاكمة التاريخ على أساس معطيات ومعايير الحاضر. لقد صدق الزعيم البريطاني “وينستون تشرتشل” حين قال: “إذا فتحنا خصاماً بين الماضي والحاضر فسوف نفقد المستقبل”. وقال: “الإنسان العاقل يعرف متى تكون المواجهة، ومتى تُقبل الحلول الوسط”.المطلوب الآن هو كيف نعالج أضرار الماضي؟ كيف نمحو آثار العبودية و التراتبية الاجتماعية؟ كيف نحقق
لعدالة والمساواة، ونبني دولة القانون والمواطنة والحداثة؟ المطلوب هو الإصلاح .. واسمحوا لي أن ألفت الانتباه إلى أربع نقاط.
– أولا: الإصلاح يبدأ بالاعتراف بوجود آثار العبودية و التراتبية والأضرار الناجمة عنهما. ما معنى أن نعالج مرضا إذا كنا ننكر وجوده أصلا؟ وما معنى أن نصلح أضرار الماضي، إذا كنا نتصرف كما لو أن هذا الماضي زال نهائيا، ولم يبق له أثر؟ فهذا غير منطقي. علينا أن نتحلى بالشجاعة، ونكون قادرين على رؤية ما تبقى من رواسب الماضي لمعالجتها والقضاء عليها. وفي هذا الشأن، أسجل بارتياح الاعتراف الرسمي والشعبي صراحة بوجود فئات شعبية أصيلة وذات وزن كبير، عاشت معظم حياتها مهَمَّشَة ومعزولة عن المجرَى الرئيسي للثقافة العامة والتنمية، والإعلان عن ضرورة التضامن والتآزر معها والنهوض بأحوالها.
– ثانيا: مفردات الإصلاح المطلوب وأركانه، هي: التعليم، ثم التعليم، ثم التعليم؛ والمِهن، والعمل المثمر، وتحصيل المال، وإدارة الأعمال، والمشاركة في دوائر صنع القرار. هذه هي ركائز التحرر والانعتاق الحقيقي. وتحتاج مواصلة العمل على توفير الخدمات الأساسية لسكان “آدوابه” و أحياء الصفيح، و انتشالهم من الفقر و الهشاشة و الإقصاء. أقول مواصلة العمل لأن العمل قد بدأ بالفعل من خلال فتح المدارس، و بناء المراكز الصحية، و فكّ العزلة، و برامج محاربة الفقر، و إذكاء روح المشاركة في الشأن العام… أدري أنّهُ عمل متواضع حتى الآن و دون المستوى المرجو، و لكنه خطوة في الاتجاه الصحيح.
ثالثا: الماديات وحدها، رغم أهميتها، لا تكفي لإصلاح جرائم العبودية، لا بد من معالجة الأضرار النفسية والمعنوية الناجمة عنها، ومواجهتها بقوة القانون، واعتماد سياسات تفضيلية في الإدارة والتوظيف. وفي هذا النطاق، لا بد من محاربة الاستعلاء الثقافي والعرقي لدى بعض الناس، والذي شكّل عنوانا سيئا في مفردات الخطاب والسلوك الاجتماعي طيلة قرون، مع أنّهُ لا يستَنِدُ إلى دِين، و لا عقل، ولا دُنيا. و اليوم، يتعيّن التَّكفير عنه وعن كل أشكال التّكبُر الزّائف، طبقا لما ورد في خطاب “ودان” مدعوما من قِبل جل الأحزاب والحركات والمنظمات المدنية.
و في نفس السياق، يتعيّن على أبناء الفئات “المظلومة تاريخيا” التحرر شيئا فشيئا من ذلك الإحساس الزّائد بالاضطهاد والإقصاء الذي سكَنَهم لعقود، ليحلّ محلّه إحساس أكثر إيجابية بالمشاركة والمسؤولية بالنّظر إلى ما حصل من تقَدُّم. وعليهم الاعتراف بأنّهم اليَوم باتوا قوة وطنية كبرى ولاعبا حاضرا وشريكا في أعلى مستويات الدولة… قوة تحظى برئاسة مؤسسات دستورية مهمة، و تفوز بمئات المقاعد في البلديات والبرلمان، وتقود وزارات ونقابات واتحادات وهيئات مدنية مؤثرة… كما أنّ الظفر بمنصب رئيس الجمهورية في مُتناول يدها؛ وقد شاهدنا كيف أنّ الشعب الموريتاني انتَفَضَ عن بكرة أبيه بكلّ مكوّناته وألوانه 2009-2014-2019، خلف مرشح من أبنائها. و على هذا الأساس يجبُ على قادة الرأي والوجهاء والنُّشَطاء المنخرطين من تلك الحركات تثمين ما أحرِزَ من تقدُّم وانفِتاح، والتّرفع إلى مستوى المسؤولية عن الوطن ككل.
– رابعا: وخدمة لهذه الأهداف، اقترحت قبل عشر سنين المصادقة على ميثاق إعلامي يحرِّم و يجرِّم العِبارات والمفرَدات والإيماءات والإيحاءات العنصرِية، ومفردات الكراهِية وتحقير الآخر، وتنقِية المناهج التعليمية من ذلك كله على أن يتضمن البرنامج المدرسي في جل مستوياته مادة عن مساوئ و مضار العبودية والعنصرية وأسبابها وأشكالها ودواعيها مع غرس قيّم الأخوة والتضامن. وفي هذا السياق، طالبتُ بدفع وتشجيع علاقات الإخاء و التوادُد و التراحُم التي آلت إليها فى الغالب الروابط الأهلية اعتبارا لحاجة كل الناس فى كل الناس. و هي العلاقات الطيبة التي بدأ المجتمع ينتظِم عليها و يعيد بناء نفسه بتفاؤل وأمل.
والله ولي التوفيق