نحيب الأمكنة…/ المرتضى محمد أشفاق
بيتنا الأول هو نحن، هو صرختنا الأولى، هو التراب الذي تشرَّب دماء مشيماتنا، هو تعثراتنا الأولى ونحن نتهجى الخطو…هو ذكرياتنا نسجلها بين الجدران، وفي حبات الرمل، ونهمس بها لأوراق الشجر…
المكان هو الإنسان، رحلته، آماله، أحلامه، أفكاره…آلمني نحيب الدور وهي تندب الراحلين، فمنهم من طلقها واستبدل بها دارا غيرها، ومنهم من وصل نقطة النهاية من سفر أيامه ودعاه الداعي إلى محطة الانتظار البرزخية..
نسي بعضهم أيام أنسه، وتفاصيل حياته العفوية، نسي أن بين جدرانها المتصدعة، وشقوقها الغائرة حكايات، وأسرارا…….
تناغمت فيها حكايات الأدب والتاريخ والسياسة، فيها التقت النخب، وأصغى الرأي بهدوء إلى الرأي المخالف…
دار الكور ولد أداع، وخيمة الوبر المضروبة في الجزء الشرقي من الساحة الكبيرة، والإبريق الرمادي محكوم عليه بالخلود على نار لا تتطفئ إلا ليرتفع لهبها من جديد…
والرجل بوقاره، والشيب سوار أبيض يجلل قيهله الوضاء، من فيه تتدفق الحكمة والمثل والثقافة على ظهر حرف نقي أصيل ما به درن، ولا يشكو من حرن، تحيط به جماعة لا تختفي إلا حين يعتلي الليل صهوة جواده وينادي الهزيع حي على الرحيل…خلت الدار من ساكنها، تبدلت، وصارت فضاء حرا لتناسل القطط السائبة، واجتماع عصابات الأطفال التي تهاجم المنازل المجاورة في مواسم النبق،،،
وقفت أمام دار باعمر، النجار المهذب، الهادئ الذي يخبرك خطوه البطيء بتراكم الأيام على ظهره، وهو الغائب في غبار رحلة الكدح والانحناء بمنشاره ليصنع لجيل الغد مقاعد الدراسة…اختفى الرجل وبقيت الدار صامدة في منعطف طرقي شمال ملعب المدينة، قاومت لواعج البعد، ثم بدأت قوائمها تنهار في يأس، وسقطت كعجوز فاجأها الشلل الكلي وهي تكابد النزال في معركة الوجود، لم تجد غرابا يواري سوءتها فصارت مكبا للنفايات…
اعترضتني دار اعل ولد ابريهلل، لم تنس جدرانها بعد ذلك الرجل الأسمر، المعلم الجاد، الذي استعانت به الدولة في وظائف أخرى، فابتعد عن التعليم، وغبار طباشيره، وخيبات تباشيره، يخيل إليك أول الأمر أن الرجل مدلل، حتى إذا اقتربت منه عرفت كيف يحسن التواضع الاختفاء وراء بعض الصور مغالطا، اعل رجل نبيل، هادئ ودع الدار في آخر محطات عمله، وما زال بها إلى ذكراه شوق لم تطفئه السنون الجاثمة على وداعه الأخير…
أنا الآن أمام دار الشيخ ولد مكي، عفوا لم تعد الدار دارا، دارت بها الأيام، وتكاثرت في جوفها الأسقام، لن يستقبلك الشيخ بمحياه الطلق الصبوح، بعد أن كانت دار أدب وفن …هي الآن في ما يلي الشارع المعبد حوانيت، تصطف أمامها عربات الحمير، واختفى كل أثر يحدثك عن ماضي تلك البقعة وما شهدته مساحتها المبلطة من سمر وشجن…لا أحد من باعة الخبز والحمالين، وصغار الجزارين يعرف رجلا سكن تلك المساحة المحتلة اليوم من بضاعة مختلفة يدعى الشيخ ولد مكي…
تقدم غربا تر آثار دار محمد يحيى ولد حامد القاضي الذي لم يخش في الحق عتابا، ولا عقابا، ولم يترض في العدل أهلا ولا أصحابا، لم يبق من جدرانها إلا نتوءات قبيحة مثل ما تبقيه السوسة من أضراس المعمَّرين، خراب، وفراغ، وقطط نافقة، وجثث حيوانات يتخلص منها أصحابها ليلا والناس نيام..
إذا تقدمت جنوبا واستطعت المرور بين طاولات باعة الخبز، وبائعات اللبن الرائب والنعناع، وازدحام الجزارين، وصياح باعة الحبوب والتوابل، وأنت تخلص طرف دراعتك من أخشاب الوضم، ستصل بعسر شديد إلى دار عبد ولد صمب فال..لن ترى عريشه الكبير المسقوف بالصفيح، وفيه أمة من الناس، يأكلون ويشربون، ويتادوون، لم تعد تلك الدار دارا، اختفت، واختفى ساكنها، وأصبحت دكاكين بلا بضاعة، مغلقة الأبواب، تستظل الماعزة بجدرانها حتى تلعق الشمس الظلال من تحت أقدام الرمال.