مَرْسِي دِكْتَى!. Dictée
..شارك في مسابقة الشرطة… أقصاه الإملاء الفرنسي فحزن كما نحزن جميعا من الإخفاق، والاختناق بحكم مؤبد سجن البطالة واليأس..الموريتاني عادة لا يشارك في المسابقات حبا لوظيفة بعينها، فليس بينهما ود طارف ولا تليد، لذلك يترشح لجميع المسابقات في آن واحد، ليكون معلما، أو حرسيا، أو دركيا، أو قاضيا، أو أستاذا، أو طيارا، أو بحارا، لا يهم، فيمكن أن يحمل ليسانس أدب ويترشح لمسابقة الممرضين، وأساتذة الفيزياء، أو مراقبا في منشأة نووية، بل قد يترشح الرجل منا لرئاسة نقابة الحوامل، لا حاجز يصمد أمام طموح الموريتاني الزائد جرعتين في الخروج من ربقة البطالة من أي ثقب، ويحصل على اعتماد مالي واللعنة على الالتزام..
…هذه قصة طريفة، تُدوولت منذ سنوات، ولا شك أن كل من مرت بهم جربوا فيها مهاراتهم، في التحسين والتشويق، فنحن أمة وضع، وتحريف، يموت فيها النص الأصلي عند أول رواية، ويخضع لمزاج وتفاعل المتلقين…
لم ترحم(الدِّكْتَى)
أخانا، فحطمت آماله، وأرته المستقبل ظلاما ونارا، لكن الله يسر له طريقا إلى الرزق أزكى طعاما، وأقل رهقا، ففشت له فاشية من مال.. ركب سيارته الفارهة يوما وخرج في رحلة داخلية..توقف عند مركز الشرطة خارج المدينة..في يوم شديد الحر..والريح العاصف تجلد السهل الحزين فينتفض نواحا وتغيب الدنيا في موج غبار…
خرج الشرطي في لثام رمادي..لا تميز لون جلده من لون بذلته.. شاحب الوجه.. ضامر الجسم..على ثنياته النقع الأسود.. وكيف لا يكون كذلك وهو المرابط على ثغر حساس، في مهنته النبيلة لينعم المواطن بالأمان، وبراتب لا يرقى إلى مستوى تضحياته، والمخاطر التي يتعرض لها وقد يكون الثمن فيها روحه…
أنزل صاحبنا مطرودُ الإملاء النافذة الزجاجية ببطء، حتى لا يتسلل الغبار والحر إلى داخل السيارة المكيفة..نظر بتعال وإشفاق إلى الشرطي..فانتبه فجأة..واستشعر أمرا ثم رأى بين الغبار والأشعة الحارقة أطلال شاب لم تندرس بعد..تصفح ذاكرته فعرف أنه الشاب الذي غبطه.. بل حسده ذات يوم..هو صاحب الرتبة الأولى في تلك المسابقة التي أقصته هو منها (دِكْتَى) أي الإملاء الفرنسي،
لها الزمام فهدرت..رش هواءها بعطر ممزوج برائحة سيجارته.. وانطلقت تمخر بحر آل كاللهب أو هو أشد قيظا..
سوى عماماته..نقر بأصابعه لوحة التحكم كعازف غائب في نغم جميل..وكرر:مَيرْسِ دِكْتَى، مرسِ دِكْتَى…(شكرا يا إملاء، شكرايا إملاء)..
كم من تاجر سمين اليوم، ومالك محطة بنزين، ومدير مصرف، ونادل في فندق، أقصاه العروض والنحو، أو الرياضيات، في مسابقة مدرس..ثم يراه اليوم وقد جنى عليه نحس علمه، متشحا بالغبار، جاف الشفتين، متشقق الأصابع، يحاول توصيل رسالته إلى خشب، وينتظر أن يفهم الحطب، تحزنه رسالة (الراتب دَخَلْ)، لسوء ما بشر به، أيدفعه في الإيجار؟ أم للصيدلاني؟ أم للتاجر والغسال؟ أم يمسكه على كره حتى يعلم ما هو فاعل فيه؟
قلت يقول المحظيون بنعمة الجهل شكرا أيها النحو، شكرا أيها العروض، شكرا للرياضيات…شكرا لك أيها الرسوب العظيم، أنت من أنقذنا من لعنة الأذكياء..