حتى لا ننسى:(الْبِلْدُوزَيْرْ)!.. / المرتضى محمد أشفاق
شيد القصر بأحدث المعايير المعمارية، وجهز بأثاث أسلمه بحر إلى بحر، ومحيط إلى محيط..أرائك وحشايا وستائر جزلة الغزل، آسرة النقش، زاهية الألوان..دواليب رقيقات الحواشي تعصبها سبائك دقيقة متراصة من الزبرجد الصافي، تتوسطها مرايا من البلور الناصع، وثريات زمردية تتدلى من السقف المزيف في قداح مرمرية بديعة الأشكال، ترسل أشعة قزحية في بخل مدني محكم..وفي بعض الزوايا كومات من نفائس المتاع لم تعرف “افاتو” بعد طريقة استعماله، ما زالت تنتظر من صديقتها في مدريد مهاتفة ب”كُودْ”: التشغيل، الجدران تبرق من آثار طلاء عجيب تداخلت فيه الألوان المختلفة كمتنكرة تخشى كشف هويتها، التلفزيون فن فريد أنجزته أمهر أنامل التكنولوجيا وأرقها ذوقا، ضامر كطاوي عشر، يلتصق بالجدار يعوذ به كالخائف من عدو مداهم..لكن محمودا وهو شقيق المختار (صاحب الدار) حل ضيفا ليصل رحم أخيه وقد فرقت بينهما الأيام، وساقت كلا منهما إلى منكب قصي من مناكب الأرض..هو رجل نحيف، طويل اللحية كثها، شيبتها شمس الصحراء ونفنف أيار، آدم البشرة تتناثر فيها مساحات صغيرة هي لون فاتح استوطنها ذات مرة، رقبته كجذع شجرة المراح التي تعلق عليها السرج والحبال، وقيود الحمير، وأرسان الخيل..والمحاليب..نعم في رقبة محمود سيور ممعوسة كالأنساع يتعلق ببعضها غمد موساه، وببعضها محفظته الجلدية التي تحوي وثائقه وقلم الرصاص الصغير، وغير بعيد نسع آخر يتدلى منه غمد طويل رقيق هو ملم المسواك، مع مكتبة من التمائم المتفاوتة الاحجام، بعضعها محفوظ في إطار نحاسي والآخر في غلاف جلدي سميك..أقعس كمن يتوقى سوطا ثانية، وكالمتشوف طلائع قافلة الزرع القادمة من شمامه..سحب خنشاته الثلاث وصب متاعه على الزرابي المبثوثة، أمدادا من طحين النبق، وأخرى من كسكس البادية المجفف، كومة من مساويك الأراك والبشام، هي هداياه إلى أخيه وزوجه وبنات أخيه الثلاث..سال الغبار الأبيض الناعم غزيرا على “التراكي” والحشايا المتنفسة برائحة المصانع الراقية..كان محمود لكرمه البدوي مصرا أن يحفن حفنات يدسها في جيوب الداخلين كبارا وصغارا قائلا (كلوا هذا حدثني من لا أشك في أمانته أن “أوفى” رحمه الله أخبره أنه هاضم جيد)…….في المساء عاد المختار وافاتو من العمل ليفاجآ بمنظر غريب في هذا القصر المشيد..استشاطت افاتو غضبا ودعت زوجها إلى اجتماع عاجل في غرفة النوم لمناقشة قضايا خطيرة تمس الأمن العام والاستقرار في حوزتهم الترابية..فمحمود صورة نشاز مقززة في المنزل ولا يمكن مهما كانت الظروف والنتائج أن يبقى فيه، لا بد من تدبير حيلة سريعة لترحيله..كيف تتحمل افاتو منظرا متخلفا لمخلوق غريب طويل اللحية، متسخ الدراعة خلقها، لا يغطي بطنه، متشقق القدمين، متصلب أصابع اليدين، كلامه جلجلة، وضحكه فرقعة، كيف ستتحمل أن يراه أصدقاؤهم وما ذا ستقول لصديقاتها عندما يتخذن من منظره تسلية وسخرية ؟؟ كان المختار وهو المعروف بالضعف أمام سيدة قصره يهمس في استجداء: لكنه أخي..فترد المرأة إياك ان تعيدها، أنا لا أحب أن يعرف زوارنا أن لك به صلة نسب، حتى بناتي ما كنت أحب أن يعلمن أنه عمهن..على كل حال سنجعل له حصيرا في “الكاراج” بينما نكمل تدابير ترحيله، انسحب المختار مهزوما، لكنه توسل بكبرى بناته إلى زوجه كي تقبل انضمام أخيه الى معلم القرآن في بيته، فهو لصيق “الكراج” ويخاف أن يراه أحد أقاربهم فيذيع في الحي عقوقه….كانت الليلة معتدلة الطقس، النسيم الرطب الخفيف يتسلل على استحياء من فتحات الستائر فيحرك خيوط الدخان الرقيقة السابحة في سماء الصالون ممزوجة بعطر خفي منعش، ويشتد تارة فيحدث وهو ينساب بين فجوات الأغصان صفيرا ضعيفا كأصوات هوام الليل الآتية من بعيد…كان السمار من أصدقاء المختار وصديقات افاتو سارحين غائبين في جو تتخلله أحاديث فضول منحطة، وخرجات من أفانين الغفلة أغلبها اجترار ما تلوكه الشاشات الصغيرة من نفايات الفنون الرخيصة تتخلص منها كبريات شركات الأفلام العالمية، كانت افاتو – اذا سكت اللغو- تعرفهم على مكونات أثاث الدار ومواطنه الأصلية….دخل محمود جامعا طرفي دراعته بيده لأن سرواله تحت وسادته وبدأ يسلم فنهض القوم للسلام عليه، فكانت يسراه على رؤوسهم تفرق شعر كل واحد منهم وتنغرس أظافره في جلدة الراس مباشرة، فيضيع على القوم جهد كبير قضوه أمام المرآة للحصول على تصفيفة عصرية أنيقة، لكن الحسنات أهم من ذلك فمحمود مؤمن أنه بقدر ما يمسك من شعر رأس المسلم عند المصافحة تتدفق إليه الحسنات، أما يمناه فكانت تضغط على أيامينهم حتى تلمس الراحة الراحة..وما أصعب أن تلامس راحة محمود راحة مصافحه فهي مجوفة كنصف المحقن..وبين وقت وآخر تفشي موجات الصبا سرا كانت تستره أطراف دراعته قبل أن يحررها محمود ليتمكن من تطبيق مراسيم التحية..كان بعضهم يسترق النظر إليه فيغبطه على هيفه وضمور ثدييه..جلس وشرع يسألهم عن قبائلهم، و أسعار النعاج في قراهم وعن سعر مد “تغليت”..وحدثهم عن تفاصيل حياتهم في البادية..وعن انشغال أخيه الأصغر بالرعي والسقي عند البئر..أما أمه فكانت غازلة وبر، وناسجة بنائق الصوف والحصر، تضرب إليها أكباد الإبل وكانت رحمها الله تقيت عيالها بمداخيل ذلك العمل الجميل، ومنه صرفت على المختار ليواصل دراسته في كيهيدي..ويواصل لكن الأيام الجميلة ولت مع المختار ولد داداه كما ولى البقر الأحمر والعوذ المطافيل…..لم يكن جو غرفة النوم في الليلة الثانية أصفى ولا أهدأ منه في الليلة الأولى..بل إن ما بدر من محمود قطع الشك باليقين فهو لعنة نزلت بهذا البيت وحولت أحلام ساكنيه إلى كوابيس مروعة، كل ساعة تجيء تلد من بوائقه ما لم تحبل به الساعات الماضية، حمي النقاش وكان المختار واهي الحجة هذه المرة خصوصا بعد أحاديث أخيه مع الضيوف..فهو حقا لم يخلق ليزور المدينة فطباعه الغليظة وحتى شكله وتضاريس جسمه كلها منكرة في الحياة المتحضرة وما يزينها من “ماكياج” يطوع الأجسام والطباع.. يحتاج ليصاغ جسمه من جديد إلى أن يفكك ويفرق عضوا عضوا ويشرف على إعادة تركيبه وتقويم المعوج من عظامه والناتئ من مفاصله فريق متخصص ماهر من النجارين والصاغة..بدا لمحمود- وقد خلا له الجو- أن يتفقد مملكة أخيه، ففتح الدار بيتا بيتا، واطلع على المطبخ وما حوى، والمخزن وما أخفى، وغرفة النوم وفيها حدثت واقعة كانت ثالثة المصائب..رأى رجلا يشبهه شكلا يتقدم إليه باشا هاشا فمد يده لمصافحته وبادر إليه هرولة وبادله ابتساما بابتسام وحفاوة بحافاوة، ليرتطم بمرآة دولاب الملابس والحلى، ويسقط والدماء تنزف كالشلال من جبهته..فما كان الرجل الا صورته في المرآة…مصائب الرجل متعددة متنوعة..فبعد أن يخلد أهل البيت إلى النوم وقبل أن ينقطعوا عن عالم الصحو يبدأ الاستغفار وإنشاد ميمية البوصيري بأعلى صوته..فيفر النوم – وهو زائر ليلي حذر وجبان يطرده الهمس والنجوى ويرتعد فرقا من مناغاة الرضيع، فكيف يواجه جند البدو ودوي حناجرهم- يفر لا من دار الأسرة المنحوسة فحسب بل من دور الجيران أيضا….وحان يوم الرحيل فحجزوا له في “امْشَامْلَهْ” ضخمة (مصطلح للسيارة التي تحمل الناس مجانا) ركابها من جنسيات مختلفة: ففي منكبها الأيمن ثلاثون طنا من الإسمنت، وفي منكبها الأيسر عشرون طنا من أنواع الحديد، وفي صحن صدرها تتربع خمسة مولدات بجوارها أعمدة ضخمة من أصناف الأنابيب..ولم يكن لآدم بين تلك الأحمال ولد سواه، فاختار راكبا آ خر لا يثور غباره كالإسمنت، ولا ترتفع ضوضاؤه كالحديد..هو جار هادئ الطبع، طويل الصمت، مطرق كالمفكر في العواقب، يجثم على سرة الشاحنة، رتب محمود متاعه وخنشاته وقد حوت أعدادا من دراريع أخيه المصابة بداء ثقب الجيب وهو شيب الدراريع المنذر بدنو أجلها، وبعض الأقمصة المتساقطة الأزرار، ونعالا نسائية غير متجانسة تخلصت منها زوج أخيه..فاطمأن إلى جواره وأنس إليه وتمنى أن يقتبس الناس من أخلاق “البلدوزير” …