غربة الشاعر المهاجر: سنابل الحرائق / أدي ولد آدب
ق الغربة قدَري، معًا وُلِدْنا، كنا توأميْ أزَل،أحسستُها حين تفتَّحَ وعْيي غضًّا على مضارب الأحياء البدوية المترحلة، فوجدتُ أحلامي أكبر من مدار انتجاعها، ومراكز مرابعها، ورؤيتي للحياة أبعد من نهاية الأفق المحدود، معًا كبرنا رويدا رويدا، فـانقدحت فكرة الهجرة، “تأبطتُّ أوراقَ صعْلكتي”، وأنطلقتُ في”رحلتي بين الحاء والباء”، باحثا عن “بصمة روحي”، مستشرفا “تأويل رؤياي”، المُعَلَّقَة في السماء حلما، حيث تسوَّرْتُ قاعة الباكلوريا، دون دخول أي مدرسة قبل ذلك، تفوْقتُ، ودخلتُ الجامعة، وفيها واصلت تفوقي، حتى نججت متفوقا في مدرسة الأساتذة، وتخرجت منهما معا متفوقا.
درَّسْتُ أحدَ عشر عاما هناك، لكن الغربة ما تزال رفيقة الروح، والحُلُمِ الطوباوي، المُعَلَّق في سِدْرَةِ مُنْتَهَى المنى، المُرفْرف بين الوطن «المُسَجَّى»، والوَطَن «المُرَجَّى»، لم يتستطع الواقعُ البليد، العنيد، أنْ يقُصَّ جناحيْه…
ظلت الغربة بين الوطنيْن نزيف صمت داخلي، ثم انبجس “نزيف مشاعري”1998م قصيدا ضاق بالصمت:
أيريبكَ الصمْتُ.. الذي يَغْــشـــــــــاني؟***القلبُ.. يَهْذي.. تحتَ صمتِ لســانيإنِّــــــــي أراكَ .. ولا أراكَ.. لأنّــنــــــي***دانٍ .. بعيدٌ .. منكَ .. حــينَ تَـــــــرانيفأنا.. أشــــارككَ المكــــانَ .. ورُبَّـــــما***أرتـادُ كونًا..خـلْفَ كــلِّ مــــكــــــــــانيإنـِّي غريبٌ.. بيْنَ قوْمِي.. هــــــا هنـا***ليس المـكــانُ.. ولا الـزمانُ زَمــانــــيأصمْتي: نــزيفُ مَشاعري.. وعبادتــي***ومقدَّسٌ – مِلْءَ الخُطَى- هذَيـــــــانيرمض الرصيف..أعزُّ لي من مقعد***يحشو فمي .. وا صرخة الأوطان!
كان الشاعر، والباحث، والكاتب الصحفي، والثوري السياسي المستقل، والطالب، والأستاذ… شركاء متشاكسون، بين جنبيّ، ومتناغمون، في الوقت نفسه.. قرّرَ “تأبَّطَ أوْراقا” أنْ يتأبَّطها في رحلة بحْثٍ عُلْيا، ارتيادا لآفاقٍ علمية وإبداعية، وفكرية أرحب وأعمق، تكلَّلَتْ بالرقم الأول في السنة الأولى، وفي السنة الثانية من الماجستير، وفي رسالة التخرج، ثم في الدكتوراه أخيرا..
هنا أرجعتُ البصرَ كرَّتيْن ، في حصاد عشْريةٍ من عمْري سلختُها هناك، فتبرَّجَتْ ملْءَ البصَرِ عشراتُ المُنْجَزات البحْثية والإبداعية، بعضُها نُشِرَ في الجزائر، وفي الإمارات، وبعضُها نُشِرَ مُحَكَّما في إسابنيا، وفي ليبيا، وفي المغرب، وعشرات المحاضرات، والمشاركات، في الندوات والمهرجانات، والأمسيات، داخل المغرب كله، وخارجه، وعشرات المقابلات الصحفية، المقروءة، والمسموعة، والمرئية، وعشرات شهادات التقدير، والأوسمة…
كل ذلك –لله الحمد-دون استشراف للمنابر، ولا استجداء، ولا حتى اقترح للمشاركة هنا، ولا هناك.. هالني- حقيقة- أنْ لم يصاحبني من بحوثي في وطني غير بحثيْ تخرجي من كلية الآداب1992، ومن كلية القانون2000-2001، وأنْ لم يَصْحَبْني من هناك غير شهادتيْ أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وشهاداتي الجامعية، وشهادة تقدير واحدة من جمعية ثقافية..وأنْ ليس بين الدعَوات الثقافية الكثيرة غيردعْوتيْن فقط لمهرجانيْن موريتانييْن، أحدُهما رسمي، في فترة استثنائية… دون ذكر ما اكتنف ذلك.حملتُ نفْسي- على كل حال- عائدا إلى قواعدي سالما، جئتُ وزارتي، وقلتُ: انتهت المهمة العلمية، مكللة بكل نجاح:[هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ]، لا أريد أكثر من حقي الطبيعي في الترقية إلى التعليم العالي، فقالت جدْرانُها الصمّاءُ: وَرَاءَكَ، [ليْتَها كانتْ القاضيةَ]، كنتَ، وكنّا-وما زلتَ، وما زلْنا- فيك من الزاهدين، حتى تنساق مع القطيع، وتستمرئ نقيق الضفادع، وجدْتُني في غياباتِ جُبِّ الضياع، ولا واردَ يُدْلِي دَلْوَه،..
إني أتنَفَّسُ.. تحت السراب… تحت الهَباء… إنِّي أغرق.. أغرق.. انتفضَ الماردُ الصعلوك في دمي، تأبَّطَ أرواقه، وتـأبَّطني، متمْتما تعاويذَ الشاعر الثائر المهاجر: أضاعوني، وأيّ فتى أضاعوا… وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى…إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا*** أن لا تفارقهم، فالراحلون هم… طوَّحْتُ في التَيه سنواتٍ.. صابرا “رمَضَ الرصيف”، قابضا على المبادئ جمْرا.. حتى انتهى بي المطاف الصعْب -لله الحمد- باحثا وخبيرا دوليا في مؤسسة عربية علمية أكاديمة، يتنافس للوصول إلى أعتابها صفوة الصفوة من عقول العالم العربي، وغيره، دون أنْ أتوكأ على عصا قبيلة، ولا جهوية، ولا حزبية، ولا حركية، ودون أن أفقد ذرة من كرامتي بفضل الله، وعونه، وتوفيقه…أنا أدرك حجْم أزمة الشاعر المُهاجر، في علاقته مع أوطانه، لأنَّه إنسانٌ حالمٌ، سقْفُ خَيالِه أعْلى بكثيرٍ منْ مَنْطِقِيَّتِه، ومِثَالِيَّتُه بعيدةٌ منْ واقِعِيَّةِ السياسي، وطمُوحُه لوطنِه المَنْشُود أكبرُ منْ حَجْم وطنِه المَشْهُود، لكنَّه-مع كل ذلك- شديدُ الألفة، لفَضَاءاتِه الحَمِيمَة، وحتَّى لوْ كانتْ أطْلالاً بلاقِعَ، وهذا ما يُفاقِمُ أزمة مُواطَنَتِه، فبلادُه تسْكُنُه، وإنْ لمْ يَسْكُنْها، وتُهَاجِرُ فيه، إنْ هاجرَ عنْها، فهو يفِـرُّ منْها إليْها، في رحْلةٍ سِيزيفيةٍ، لأنَّ ضمِيرَه «ضميرٌ مُتَّصِلٌ» بالأرض وإنسانها، مهْما تضافَرَت العواملُ على جَعْلِه «ضميرًا مُنْفَصِلاً»، فيظلُّ يُغَنِّيها، حين تُعَنِّيهِ، ويُدْنِيها، حين تنْفيه، ولذلك يحلو لي دائما أن أدندنُ أناشيدَ هجْرتي، ومزامِيرُ غربتي:وَطَنِي.. عَلَى كَتِفِي.. حَمَلْتُكَ.. مِنْ… إلَى…***إنِّي أُفَتِّشُ.. عَنَكَ.. فِـيكَ.. إلَـــــى مَ..لا…؟وأفِرُّ.. مِنْكَ.. إلـــيْكَ.. كُـــــلُّ قَصـــــــائدي***نَبْضُ الضَّمِير.. المُشْتَهـــــي أنْ يُـــوصَــلاوكيف يحْدَثُ الوصْلُ بيْنَ ضِفَّتَيْ واقِعِ الوطَنِ المَوْجُودِ، وَحُلُمِ الوَطَنِ المَنْشُود:وطني المُـرَجَّى: جَنَّـةٌ.. مفْـقـودةٌ***للحُـبِّ.. للإبــداعِ.. للإيـــمـــانِوطني المُرَجَّى.. إنْ تَفُتْني واقـعاً***فأنَـا أحُجُّ.. إليْكَ.. في وجْــدانيتغَرَّبْتُ-أولا وأخيرا- أحْمِلُ مشْروعا بحْثيا إبداعيا مُعَلَّقا يسكنني، يكتبني..بدأت نتزيله.. من معارج الحلم، إلى مدارج الواقع، فنشرتُ أطروحتي بالتحكيم الأكاديمي2015،و”بصمة روحي”2018، و”تأويل رؤياي” 2019، وخماسية سلسلة أدبيات أهل آدب 2020، وفي هذه السنة سأنشر- بعون الله وحده- خمسة دواوين، وخمسة كتب على الأقل، في الأدب الأندلسي، والأدب الموريتاني الفصيح، والحساني، مهداة لموريتانيا المحظوطة، بمُشَرَّدِيها المبدعين/ طيور الله:فكل حصاد العمر رهن حسابها***أنايَ أناها.. والضميرُضميرُها