للتذكير/ديبلوماسية الفن…/ المرتضى محمد اشفاق
لم تكن مجالس السمر الفني مناسبات طرب، ورقص، ومجون، كما يخيل إلى البعض…كانت ملتقى يجمع الشعراء و(لمغنيين) وأهل الرأي، والساسة، والقادة، وهواة الطرب والأدب، ومن يحملون في صدورهم قلوبا تخفق للجمال، وأنفسا تحترق بالأشواق والأذواق، يتناشدون الأشعار، ويتعاطون الأخبار، ويسردون حياة الأمصار، ودقائق وغرائب الآثار، ويستمتعون بأحاديث الأوتار، وفيها تتدفق الحكمة من أفواه العقلاء، والتوجيه على ألسنة الحكماء.. هي مواسم ثقافية رائعة وماتعة، مشكلة الألوان، مختلفة المواضيع، تجتمع فيها النخب المختلفة المناهل والآراء، مع حاشية من شذاذ الآفاق دعاها الوتر فأجابت، وانتبذت لنفسها مكانا قصيا تسترق منه السمع، وتتلمس فيه ما يساق إليها من الأرزاق…
داعبت منينه منت اعليه أوتارها سحرا، جرحت سكون الليل فنزف، تعانق الحرف والوتر، تلاصقا، تفرقا، تواجدا، سقط النصيف عن وجه الدنيا، فانهمرت دموع الأبجدية طوفانا يقتلع أوهام البلداء، ويطهر الكون من أوجاع الأغبياء، وآلام الأشقياء… وسال آذيه هادئا ملهما كأنفاس الوادي الخصيب، يدغدغ مشاعر الحالمين…يذوبون ويغيبون..استجاب الشيخ ولد مكي لنداء الأوتار، لكنه علم أن في حلقة منينه رجلين لا يجوز أن يجلس معهما على نار فن واحدة نظرا لفارق السن، هما محمد عبد الله ولد ديده، وسليمان ولد الشيخ سيديا، وقد سبقاه إليها، فولى وفي نفسه شوق إلى ذلك السمر، وتوق إلى المعزوفة السحرية، والنغمة العسلية تدب في أوصال الليل الهادئ الصافي إلا من نجوم تتهامس بالهمز، والرمش مسبلات عليهن جلبابا شفيفا من الضباب…
ثم لم يشأ أن يغيب عن ذلك السمر فأناب عنه هذا (الكاف) تحيةً وعتابا لمنينه على أمر برم بليل:
ذلِّ خَالِطْ لِكْ من لَشْيَايْ
ش لازم منُّ حد إخافْ
بيك لِّ زرِّكْ فيه البايْ
وازِّرْ الثاني فيه القافْ
فالباي هي وسم (أولاد أبييري)، ويسم به أقوام آخرون رجاء حمايته، والقاف وسم (إجيجبه)، ويسم به أقوام آخرون رجاء حمايته، لأن منطقة ألاك منطقة واسعة، رعوية وزراعية، يكثر فيها السطو على الحيوانات، وحبسها إذا دخلت المناطق الزراعية المحظورة، طبعا كان هذا في فترة السيبه…
نعود إلى (الكاف)، أشار الشيخ بالباي إلى أخيه سليمان ولد باب، وأشار بالقاف إلى ابن عمه محمد عبد الله ولد ديده….
أما قراءتي للكاف فهي أن الفنانة منينه استطاعت بعبقريتها أن تنتصر على الخلاف الواقع بين المدرستين الصوفية والفقهية، فلا حرج عند المتصوفة في السماع، بل يراه بعضهم لغة روحانية تحلق بالإنسان بعيدا عن تحتية العالم السفلي، بينما يرى بعض العلماء عدم جوازه إذا كان على الأوتار..
فسليمان بن باب ابن المدرسة الصوفية، وابن حضرة علمية عز نظيرها، ومحمد عبد الله ولد ديده ابن محظرة الكحلاء والصفراء، آباؤه من أشهر عمدائها…لكن منينه أذابت الجليد التقليدي بين المدرستين بديبلوماسية الفن فجمعتهما على بساط واحد…
تلك رسالة الفن في كل مكان وفي كل زمان إذا وجد من يلقي إليه السمع وهو شهيد…
الحب يبدأ من دمشق فأهلنا
عبدوا الجمال وذوبوه وذابوا
والماء يبدأ من دمشق فأينما
أسندت رأسك جدول ينساب