أسئلة حائرة موجهة إلى “دفاع الطرف المدني”!/أسئلة حائرة موجهة إلى “دفاع الطرف المدني”!محمدٌ ولد إشدو
السؤال الرابع: حول “قرينة الثراء” والمادة 16 من قانون مكافحة الفساد!
من عجائب هذه “القضية” تطابق “بينات” “دفاع الدولة” و”قضاء” الدولة، بحيث نحار في تمييز الأصل من الفرع.. ومن يوحي إلى من! وهل الدجاجة سبقت البيضة أم البيضة سبقت الدجاجة؟
انظروا وتدبروا توارد وتواتر “حجج” الطرفين!
يقول “دفاع الدولة”:
- …”الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز قال لنا… في مؤتمر صحفي شهير أنه ثري وأنه لم يأخذ قط أوقية من راتبه. ومن حق الجميع أن يسأله على أساس هذه التصريحات التي تشكل قرينة قائمة”!
- – “… فعلى الناس أن تطرح أسئلة لماذا؟ فالثراء غير المبرر إثبات وجوده على المتهم، فهو الذي يجب أن يقول كيف حصل على الأموال”. وعلى الناس أن تعرف أن عبء البينة لا يقع على سلطة الاتهام ولا على الطرف المدني؛ بل على المتهم. فالقاعدة معكوسة هنا. وليست البينة على المدعي. فقانون مكافحة الفساد الصادر 2016 “هو هو الذي قال بصفة لا غبار عليها أن الرأي هو عَنْ الموظف العمومي هو الِّي ملزم يُثْبِت أموالُ اجبرها امن امنين”!
- – ” الرئيس السابق ملزم حسب قانون مكافحة الفساد المادة 16 فرض عليه أن يبرر مصادر كل هذه الأموال… والمتهم والمتهمون جميعا ملزمون بأن يبرروا ثروتهم جميعا. وهذه قضية لا تخص موريتانيا بل تنطبق على العالم كله”.
ويقول “قضاء” الدولة:
- “حيث إن استغلال عدة تصريحات صحفية علنية سابقة في مناسبات مختلفة للمتهم محمد ولد عبد العزيز من خلال محاضر تنفيذ جزئية لإنابات قضائية أصدرها قطب التحقيق (بالمناسبة لا يوجد مصطلح قطب التحقيق في قانون مكافحة الفساد ولا في المرسوم المطبق له) أثبت أن المتهم صرح في بعض التصريحات في بداية مأموريته الأولى، أنه لا يملك المال، وفي تصريحات لاحقة عقب خروجه من السلطة صرح بأنه يملك ثروات كبيرة، وفي بعض تلك التصريحات أيضا صرح بأنه لم يستهلك أوقية واحدة من راتبه الشرعي الذي يتقاضاه بصفته رئيسا للجمهورية.
- حيث أن هذه التصريحات العلنية في وسائل الإعلام، المثبتة قضائيا على النحو المذكور آنفا تثبت ثراءه الكبير غير المشروع، أثناء فترة حكمه؛ إذ كيف يحصل موظف عمومي يمنع عليه الدستور ممارسة أية وظائف أخرى على أموال طائلة باعترافه في تصريح صحفي علني، بعد أن كان وباعترافه العلني أيضا لا مال له، دون أن يستثمر أوقية واحدة من راتبه المشروع، إن لم يكن ذلك من خلال ارتكاب وقائع يجرمها القانون.
- حيث إن المادة 16 من قانون مكافحة الفساد تنص على أن أي موظف عمومي لم يستطع تقديم تبرير للزيادة التي طرأت في ذمته المالية مقارنة بمداخيله المشروعة، يعتبر مرتكبا لجريمة الإثراء غير المشروع، وهو ما يعرف قانونا بالإثبات العكسي، أي إن عبء الإثبات في هذه الحالة يرجع إلى المتهم، فهو من عليه إثبات مصدر شرعي لثروته الطائلة.
- حيث إنه من كل ما سبق يثبت بالأدلة القطعية التي لا يتطرق إليها الشك، نسبة تهمة الإثراء غير المشروع للمتهم محمد ولد عبد العزيز.
- حيث إن ثبوت هذه التهمة تثبت به جميع التهم الموجهة للمتهم… (الصفحتان 24 و25 من “كتاب” الإحالة). انتهى الاستشهاد.
فمن وجهة نظر “دفاع الدولة”: تصريح الرئيس السابق بأنه ثري “قرينة قائمة”. و”من حق الجميع أن يسأله على أساس هذا التصريح”. فـ”الثراء غير المبرر إثبات وجوده على المتهم”.. “حسب قانون مكافحة الفساد المادة 16 “.. وبهذه “القرينة” تستباح ممتلكات الرجل وذويه وأعراضهم ويسجن هو ويهان وتعرَّض حياته للخطر! ولا ذكر للتهم العشر الأخرى! فلتذهب إلى الجحيم، ما دام الهدف منها قد تحقق بـ”إثبات تهمة الثراء غير المبرر”!
أما “القضاء” فكان “أكثر” موضوعية و”أرسخ” قدما و”أشمل” نظرة! فقال:
“حيث إنه من كل ما سبق (التصريح الصحفي والمادة 16 من ق. م. ف) يثبت بالأدلة القطعية التي لا يتطرق إليها الشك، نسبة تهمة الإثراء غير المشروع للمتهم محمد ولد عبد العزيز”.
وأردف:
“حيث إن ثبوت هذه التهمة تثبت به جميع التهم الموجهة للمتهم …”.
إنه لأمر يثير الشفقة والحزن حقا، أن لاَّ تجد النيابة العامة وجميع أعوانها، بعد نحو ثلاث سنوات من “البحث والتحقيق والتدقيق” من بينة على 11 تهمة وجهوها للرئيس محمد ولد عبد العزيز سوى “قرينة” تصريح أمام الصحافة بأنه ثري! وافتراء على المادة 16 من ق.م. ف! فيا ترى أي منقلب كانوا سينقلبون لو لم يجدوا هذا التصريح؟ وكيف وصلت الدولة والعدالة في بلادنا إلى هذا المستوى؟!
هل الثراء جريمة؟ كلا! وهل تشكل “قرينة الثراء” بينة معتبرة على ثبوت إجرام المتهم؟ وماذا عن المادة 16 من ق. م. ف. التي ذَيَّلَتْ باطلَا لاتهامِ هذه السنة؟
نعم. تشكل “قرينة الثراء” بينة معتبرة فعلا! ولكنها بينة معتبرة على العجز عن الإتيان ببينة! وليس هذا فحسب؛ بل هي أيضا دعوة صريحة إلى الفساد في الأرض والفوضى ونشر الكراهية والفتنة بين الناس وتحريض الفقراء على “الأغنياء المجرمين”! وهي كذلك حرابة وسطو مسلح – ذو حدين- بالقانون! وخرق سافر لما بقي من نصوص دستورنا المستباح الذي يعترف في مادته 15 بالملكية الخاصة ويحميها! وهي بعد هذا وذاك وضع أرعن للعربة أمام الحصان!
فكيف، ولماذا؟
لا شك في أن محاربة الفساد مهمة نبيلة وصعبة وطويلة الأمد. وعلى رأس أولويات العمل الوطني في موريتانيا التي ينخرها الفساد المستشري من أمد بعيد! ولكن كيف يحارب الفساد؟ ومن يحاربه؟ هل يحارب الفساد بفساد أعظم منه وبغي في الأرض، وبجيش من المفسدين، وبالدسائس والخدع والمؤامرات السياسية كفتنة المرجعية، و”لجنة التحقيق البرلمانية”، وتجنيد الذباب الالكتروني الفاسق، وتلفيق دعوى كيدية لا أساس لها ولا بينة عليها، وانتهاك الدستور، وخرق القوانين، وتسخير العدالة في خدمة مآرب سياسية انتقامية وانقلابية؟!
تصوروا معي جدلا – وجدلا فقط- أن السلطات الموريتانية الحالية جادة في محاربة الفساد، وأنها اتخذت آليات وإجراءات قانونية سليمة وفعالة لذلك، وأنجزت تقريرا من نحو 400 صفحة يتهم أزيد من 300 “مفسد” وأحالت الملف إلى القضاء، وبعد نحو ثلاث سنوات من “البحث والتحقيق والتدقيق” أصدرت كتاب إحالة من 103 صفحات لا يتحدث إلا عن الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الذي لم يتهمه “تقرير لجنة التحقيق البرلمانية” والذي يتمتع بحصانة دستورية (اتهامه، ووضعه تحت “المراقبة القضائية المشددة” وحبسه انفراديا ومصادرة ممتلكاته وممتلكات ذويه ومعارفه وعشيرته… الخ) ولا يحتوي من البينة سوى “قرينة الثراء” وفهم سقيم للمادة 16 من ق. م. فيَدَّعِي أنها “تقلب قاعدة البينة على المدعي”!
“لَكلفتني ذنب امرئ وتركته ** كذي العر يكوى غيره وهو راتع”
وإذا كان الأمر كما زُعِمَ، فلماذا استفراد الرئيس محمد ولد عبد العزيز، دون غيره من الأثرياء القدماء والجدد الذين يوجد عليهم من البينات ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة؟! ما دامت القاعدة القانونية عامة ومجردة!
هذا عن “قرينة الثراء” المزعومة! فما ذا إذن عن المادة 16 من ق. م.ف التي هذا نص فقرتها المجرِّمة بالكامل:
“المادة 16: الإثراء غير المشروع
يعاقب بالحرمان من الحقوق المدنية المنصوص عليها في المدونة الجنائية كل موظف عمومي لا يمكنه تقديم تبرير الزيادة التي طرأت في ذمته المالية مقارنة بمداخيله”.
فما ذا يعني هذا؟ إنه يعني – خلافا لما ذهب إليه “دفاع الدولة” و”قضاؤها”- ما يلي:
- لا توجد جريمة في قانون مكافحة الفساد الموريتاني اسمها “الثراء غير المبرر” كما يدعي “دفاع الدولة”! بل يوجد: “الإثراء غير المشروع”! ومن يلتبس عليه الفعل المجرم بغيره يصعب عليه تحديده، والخوض في تفصيل أحكامه!
- أن موريتانيا ليس لديها قانون يجرم الإثراء غير المشروع كما لدى بعض الدول؛ بل لديها مادة يتيمة هي المادة 16 من ق. م. ف. التي يحاول الاتهام التذرع بها، وتحميلها ما لا تطيق!
- أن عقوبة جريمة الإثراء غير المشروع، في حال إثباتها ببينة قطعية “تثبت النشاط الإجرامي الذي مارسه المتهم بسوء نية” ليست السجن، ولا مصادرة الممتلكات؛ بل الحرمان من الحقوق المدنية!
- أن المعني بهذه المادة هو الموظف العمومي الذي ثبت عليه بالأدلة القطعية ارتكاب فعل يجرمه قانون مكافحة الفساد، ولم يستطع “تقديم تبرير للزيادة التي طرأت في ذمته المالية مقارنة بمداخيله”!
- أن هذا النص لا ينطبق على الرئيس محمد ولد عبد العزيز إطلاقا، ولا يعنيه من قريب أو بعيد، لأنه أولا، ليس موظفا عموميا، وثانيا، ذو حصانة دستورية، وثالثا، لم تثبت عليه بدليل قطعي أي تهمة.. والأصل البراءة!
- أن قول طرفي الاتهام: “وعلى الناس أن تعرف أن عبء البينة لا يقع على سلطة الاتهام ولا على الطرف المدني بل على المتهم. فالقاعدة معكوسة هنا. وليست البينة على المدعي”! و “ما يعرف قانونا بالإثبات العكسي، أي إن عبء الإثبات في هذه الحالة يرجع إلى المتهم”.. إلخ، هو قول منكرلا أساس له من الصحة ولا علاقة له بالمادة 16 من ق. م. ف، وهي منه براء حسب ما هو واضح من نصها الصريح آنف النشر. إنه سفسطة تشبثوا بها تشبث الغريق حين أعيتهم البينة، ظنا منهم أنها حجة مقنعة لتبرير وتسويغ الظلم البواح الممارس في هذا الملف السياسي؛ وأنها ستنطلي على الناس! دون أن يضعوا في حسبانهم قول إبراهام لينكولن المشهور: “يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع خداع كل الناس كل الوقت”!
ولإحقاق الحق وإزهاق الباطل، لنا أن نتساءل في هذا الليل البهيم: كيف إذن يتم الإثبات بوجه عام في المواد الجنائية؟ وعلى من يقع عبؤه؟
يقول المدعي العام لدى محكمة استئناف مصر الأهلية جندي عبد الملك في كتابه المعروف “الموسوعة الجنائية”: “الإثبات هو كل ما يؤدي إلى ظهور الحقيقة. وفي الدعوى الجنائية هو ما يؤدي إلى ثبوت إجرام المتهم.
ويقع عبء الإثبات على عاتق الاتهام، ويجب أن يتناول وقوع الجريمة، وتدخل المتهم في ارتكابها. وعلى النيابة أن تثبت توفر جميع العناصر المكونة للجريمة من مادية (السلوك الإجرامي، والنتيجة الإجرامية، والعلاقة السببية بين النتيجة والسلوك المجرم) وأدبية (القصد الجنائي بعنصريه: العلم والإرادة)”.
فهل تم تطبيق هذه القواعد والمبادئ الأساسية في هذه “القضية”؟
كلا! بل تم وضع العربة أمام الحصان برعونة وسوء نية! وانطلقت قافلة “تحقيق العدالة”! وبما أن القضية قضية سياسية بامتياز صارخ، وتلبي أهدافا ورغبات سياسية انتقامية وانقلابية، فقد بدأت مسيرة الإثبات فيها من تصريح صحفي، ووئدت حصانة الخصم السياسي المستهدف، وتمت مصادرة ممتلكاته وممتلكات أقاربه وذويه، ووجهت له 11 تهمة بالفساد، لم تقدم النيابة ودفاعها وتحقيقها حتى الساعة ما يثبت ارتكابه أيا منها! ولا حتى ما يثبت “وقوع جريمة” أصلا! فضلا عن إثبات “توفر جميع العناصر المكونة للجريمة من مادية وأدبية”! بل كانت التهم كلها تتعلق بجرائم مستحيلة! حين لا يوجد قطاع حكومي ولا مؤسسة تابعة للدولة أو للقطاع الخاص أعلنت فقدانها لأي مبلغ، أو أنها كانت ضحية لأي فعل يجرمه القانون، أحرى أن تكون قد تقدمت بشكوى ضد المتهم (ورغم ذلك يتحدثون عن طرف مدني!) وغابت عن المشهد تماما كل من محكمة الحسابات ومفتشية الدولة!
ومع ذلك، ورغم موانع الاتهام الدستورية والقانونية، تقدم الاتهام مزهوا بوسائل إثبات من العيار الثقيل هي:
“حيث إنه من كل ما سبق (تصريحه في مؤتمر صحفي بأنه ثري، و”ما يعرف قانونا بالإثبات العكسي”) يثبت بالأدلة القطعية التي لا يتطرق إليها الشك، نسبة تهمة الإثراء غير المشروع للمتهم محمد ولد عبد العزيز.
حيث إن ثبوت هذه التهمة تثبت به جميع التهم الموجهة للمتهم”!
فهل يستخفون الشعب ويستحمرونه إلى هذه الدرجة؟!