“عزبة البحر”…/ المرتضى محمد أشفاق
.. آوت إلى الكهف، واعتزلت الناس، بعد أن استبدت بهم آلهة القحط، وطغى على الدنيا ذبح النور، وتعزير الحمائم على التوقيع…ظهرت فينا أمة توبخ الفجر لصفائه، وتعير ماء الغمام بنقائه، وتحرق الورود لأنها تمنح الكون عبيرا وعطرا..لن أتبرأ منها، لأني لم أنجبها من سفاح، ولم تسقط رؤوسها على صعيد نجس..هل يحوز للإنسان أن ينكر أبناءه الشرعيين…
فينا من يبحث عن سكاكين مسممة في حبات المطر..فينا من يبحث عن الأحزمة الناسفة في السنابل تنحني في خشوع، وتغني أنشودة الحياة..
فينا من يبحث عن مبيدات بشرية في العيون الجميلة، وفينا من يتحسس عصابات الترويع والتدمير في جبين الزهرة النائمة بين أوراق الشجر..فينا من يرى الدنيا البهية مزرعة شر، وحقل ألغام، فينا من يتعبد بالبلادة وموت الأحاسيس…يدْعون إلى عنوسة الكلمة، يدَّعون أنهم يجفلون من دلالها، ويعرقون وجلا من جدائلها تكتنز كالأعذاق..يمارسون الوعظ الكاذب، وتصدر محاكم غرائزهم المتوحشة أحكاما بشنق المشاعر في مقاصل التكلس العقلي، والتحجر البهيمي…
هؤلاء هم نسختنا من (عزبة لِبْحَرْ)..زعموا أن فتاة وقفت على شاطئ النهر تصطاف، خلعت ثيابها، تحسست جسدها، فانبهرت بمحاسنها، وغواية مفاتنها..سكرت في نضجها الجنسي، لكن هاجسا خفيا اقتلعها من متعة السياحة في مفاتن الجسد..ما قيمة الثمرة إذا لم تؤكل؟ لا معنى لحلاوتها أمام الأفواه المخيطة، لا فائدة لزهرة يضيع عرفها في الصحراء، أو بين الأنوف المزكومة..لمحت رجلا على الضفة الأخرى وحيدا، فصاحت عليه تشكوه، وتتوعده وتحذره من الاقتراب منها، والرجل مذعورا ينظر إليها مستنكرا، فلم يبدر منه ما يوحي برغبة فيها، وكيف يكون ذلك وبينهما البحر وأمواجه، ومخاطره وأهواله، لماذا تتهمه بالشر.. لكن الفتاة المتوارعة، صاحت عليه تهدده، وتخوفه من شر ما تسول له نفسه، وقالت له، أنا أعرف أنك ستحل القارب المربوط عن يمينك بسهولة، وتركبه لتصل إلي، هل تراه؟ إنه خلف الدومة الكبيرة، أنا لا أستطيع أن أقاومك، ولن أصرخ فيسمعني الناس وأفتضح..يا ويلي منك…فتحت ذراعيها، حملقت في الأفق،..غمّضت عينيها، وصارت كالصليب…