يوم في سفارة رواندا/ المصطفى ولد البو
وصلتني ذات مساء من شتاء بكين القارس كعادته، رسالة على الويشات تتضمن دعوة لحضور نشاط في سفارة رواندا في الصين، وصلت العنوان فاستقبلني شباب شديدو بياض الثياب، يحملون ورودا ويوزعون ابتسامات متحورة من حزن باد في عيونهم، رافقني أحدهم إلى قاعة مفتوحة حيث تعرفت على بعض الأصدقاء في هذا النشاط الذي لم يتضح بعد إن كان حفلا أو تشييعا، ومما رجح كفة الانطباع الأخير هو غياب أي مظهر من مظاهر الفرح وسط تشغيل موسيقى بطيئة وحزينة تشبه إلى حد كبير سردا لمآس على أنغام ناي موريتاني.
أحد المشرفين يأمر أحد الشباب أن أوقف تشغيل الموسيقى، دخل رجل خمسيني أنيق، بدأ البعض يهمس…. نعم إنه السفير يبدو أن لديه ما يقوله، لنستمع..
السفير بلغة إنجليزية هادئة….
في البداية، أود أن أشكركم على تلبية الدعوة في هذا الجو القارس، نحن نقدر لكم فعلا هذا ونعتذر عن أي سوء فهم أو تقصير قد يكون حدث أثناء التحضير لهذه المناسبة، النشاط عاطفي وإنساني وكان من المهم أن تشاركونا فيه..!
يبدو أنني فهمت طبيعة النشاط، وما غيره، للأسف، لقد تحول إلى أحد معالم البلد والتصق به أيما التصاق، تفضلوا للداخل أشار أحد شباب السفارة وهو طالب يدرس في جامعة الشعب في بكين، دخلنا فأخذنا مقاعدنا فجلسنا، وقفت سيدة تبدو متقدمة في السن وقالت باكية بلغتها الأم وترجم لها أحد الشباب: أنا ناجية، لكني لا أحمل في قلبي حقدا على أحد، وأسامح لكني لن أنسى أبدا، بعدها صفق الحاضرون لها، آه قلتُ في نفسي… يبدو أنها بطلة الفيلم الذي يستعدون لعرضه، وماهي إلا دقائق حتى اكتشفتُ أنها لم تكن البطلة الوحيدة في الفيلم، لقد كان الأبطال بالملايين، قتلى ومفقوين ومشردين ومعاقين وكان البكاء والصراخ وصور الأشلاء والأوصال تغطي شاشة العرض….
انتهى عرض الفيلم، لم أسمع تصفيقا وهذا هو المنطقي، ولم يكسر الصمت الذي ساد بعده سوى أنات نسوة يجلسن في الخلف، عندها سألت نفسي.. هل يعني أن من تأثروا بما عُرض من القومية التي يعتبرها التاريخ ضحية في هذا النزاع الدامي أم أن الدموع والدماء قد اختلطت فعلا ولم يعد يمكن التمييز بين الجلاد والضحية وأن الكل مقتنع أنه لا رابح في هذه الحرب المشؤومة….
انتابني الفضول، لدي خلفية إخبارية لكنها لا تكفي ولا تعكس الجانب الإنساني للأزمة بشكل كاف… نعم ريتشارد صديقي العزيز واقف هناك، لكن المشكلة أني أصلا لا أرتاح لسؤال الشخص عن قبيلته، لكن يجب علي ذلك، أريد أن أفهم، طفقتُ أنظر إليه، يبدو مرتاحا يوزع ابتسامات خفيفة، هل يكون من الهوتو، عندها سيكون ساديا إن كان مرتاحا في هذا النشاط!
يبدو أنه من الهوتو، ولا يهمني سأسأله… ريتشارد… هذه مناسبة حزينة، لا أتمنى أن يمر أي بلد أو شعب بها، وما يعجبني فيكم (على اعتبار أنه هوتو) أنكم أقبلتم على طلب المغفرة وتخلصتم من عقدة الذنب، وتحليتم بالشجاعة لتخطي كلما حدث!
سكت رتشارد قليلا وقال: صديقي من المستحيل تخطي ما حدث أو نسيانه، الفظائع التي ارتكبت في حقنا عصية على النسيان….(يبدو أنه توتسي…واصل قائلا)…لقد فقدت الكثير من أفراد أسرتي ومع أني أعرف أنك مطلع إلا أن هناك جوانب لم يستطع الإعلام نقلها لكم وهذا النشاط هدفه الأساسي هو التعاطف مع الضحايا والتحذير من خطورة التحريض والإر*هاب العرقي ولتعي أجيالنا القادمة أن إشعال الفتيل كاف لحرق الأخضر واليابس، لقد نزحت مع من بقي من أفراد أسرتي إلى أوغندا، واليوم عدت إلى بلدي أعيش بسلام فيه لكن رائحة الدم وأصداء حكايات جدتي المرعبة لا تفارق أذني،…
لماذا فتحتُ معه الموضوع، لماذا لم أتركه وشأنه، ربما كان في طريق التعافي من هذه الذكريات المؤلمة، غيرت الموضوع بسرعة وانسحبت عنه لأتفحص وجوه الحضور، جنسيات أوروبية يتبادلون النخب، وكأنهم في حفلة تنكرية، وجنسيات عربية أو خليجية بشكل أدق يتهامسون فيما بينهم حول رسائل على جوالاتهم وجنسيات شرق آسيوية يواسون بعض الضحايا الذي استقدمتهم السفارة لحضور الذكرى المأساوية.
نعم إنه السفير اللبق مرة أخرى: لا شك أنكم تأثرتم بما رأيتموه، هي مناسبة حزينة لكن الجميل فيها هو هذا الترابط الإنساني الذي شعرنا به بين هذا الحضور المحترم والذي ذابت فيه كل الخلافات والفروق وخرج منه معدن الإنسان الحقيقي، أعلم أن من بينكم صحفيين.. وأردت أن أضيف في هذا الصدد، أن كلمة عبر الأثير هي ما أشعلت الفتيل الذي جاء على الأخضر واليابس ونحن في طريقنا إلى ترميم الأضرار الجسدية والنفسية، قمنا أيضا بوضع ميثاق شرف لهذه المهنة النبيلة، قائم على احترام الإنسان أولا….
صفق الحضور هذه المرة للسفير، الذي قاطع التصفيق داعيا إلى أن تحدثوا مع بعضكم أو ليتحدث كل منكم مع من إلى جانبه، يبدو أنه جزء أو طقس من طقوس المناسبة، التفتُ فإذا بعجوز سأعرف أنه إيرلندي يرفض أن ينسب إلى بريطانيا، قال لي بنبرة بيضاء… من أين أنت.. أجبت… قال.. آه أوكى.. يبدو أنه مستعجل لبدء نقاش سريع، أضاف… لم أكن أعلم أن الحفل عبارة عن تشييع لضحايا سقطوا منذ أكثر من عقدين من الزمن،… قلتُ هو إحياء لذكرى وجرت العادة أن تكون سنوية وبالنسبة لقارتنا أغلب الذكريات حزينة للأسف،… نظر إلي وكأنه سيقول لي… هل تحملنا المسؤولية عن حزنكم لكنه لم يفعل واكتفى بالقول إنه لا يحب حضور هذه النوعية من المناسبات!
لفت انتباهي بعدها معرض للصور منظم على هامش النشاط، لم أستطع إكمال تفحص صوره، واخترت مشاهدة مقاطع تظهر ضحايا وجلاديهم وهم يعيشون في سلام ويتبادلون الأحضان والنكات ويتحدثون بشكل دقيق عما حدث في تلك الليلة في ذلك اليوم….
اكتفيت بعدها، وكان همي الشاغل هو البحث عن مخرج من هذا الكابوس، ليس مجازا، أعني أني أردت الخروج من السفارة حرفيا وهو ما تم لي بعد طواف داخلي بها حتى رأيت الشباب أصحاب الملابس البيضاء وهم يودعون ضيوفا سبقوني للبوابة بنفس الطريقة التي استقبلوني بها.
أسأل الله ألا يعيد هذه المأساة في أي بلد، وأن تنعم رواندا بالسلام والطمأنينة دائما وأبدا.
الصورة من سفارة رواندا في بكين، لحظات قليلة بعد انتهاء عرض فيلم مأساوي عن المجازر