السؤال العاشر والأخير: حول عدد ومهمة وأتعاب “محامي الدولة”/ بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
يبدو أن مسألة عدد ومهمة وأتعاب “محامي الطرف المدني” كانت – وما تزال- تشغل الرأي العام الوطني، الذي نظر إليها بارتياب، منذ الوهلة الأولى لإعلان “النفير”. وقد تناولها صحفيون كثر بالبحث دون أن يجدوا عنها ما يشفي غليلهم ويروي تعطش الرأي العام إلى الحقيقة. وفي المؤتمر الصحفي الذي نتحدث عنه تطرق النقيب بإيجاز شديد إلى هذه المسألة، فبيّن أن عدد “محامي الدولة” أصبح 28 بدل 60، وأن اختيارهم تم من طرف وزير المالية، وأغفل الحديث عن الأتعاب! ولعل السبب في الإيجاز أن النقيب كان قد أسهب في الحديث عن الموضوع في مقابلة معه على قناة “الوطنية” رد فيها على أسئلة الأستاذ لحسن ولد محمد الأمين في الحوار التالي:
الأستاذ لحسن ولد محمد الأمين: “يسأل البعض ويضع علامة استفهام على العدد. تشكيل لجنة من ستين محاميا للدفاع عن الدولة في هذه الملفات بالتحديد، والبعض يعتبره هدرا للمال العام؛ إذ كان بالإمكان الاعتماد على عشرة محامين فقط في هذه القضايا ما دامت الملفات والإثباتات بهذا الحجم. لماذا – في رأيك- ستون محاميا؟ وهل قمتم بالتفسير للرأي العام: هل تتقاضون عليها أموالا من الدولة، وما هي طبيعة التعامل معكم في هذه الناحية؟ أريد أن تشرح للرأي العام طبيعة عملكم في هذه الناحية”!
النقيب الأستاذ إبراهيم ولد أبتي: “نحن طبيعة عملنا عمل ضخم بالنظر إلى تنوع الملفات، ولن تكون أتعابنا إضرارا بالمال العام ولا بالخزينة العامة؛ بل سنتعاون مع الخزانة العامة لأننا بعيدين من البحث عن الثراء إضرارا بالدولة الموريتانية. هذا من يروجه لا يفهم دور المحامي نحن محامين. سنتلقى أتعابا، ولكن ستكون أتعابا على المستوى المطلوب دون إضرارا بالخزينة العامة. إذن هذا سر ما بيننا والدولة الموريتانية. ولكن أؤوكد هنا عبر القناة أن هذه الأتعاب لن تكون إنزافا، بعيدا من ذلك، للخزينة العامة؛ بل ستكون على المستوى المطلوب من ناحية تعويض الأتعاب ومن ناحية الحفاظ على أموال الدولة الموريتانية”.
الأستاذ لحسن: “طيب ستتلقون أتعابا ولكن لماذا ستون محاميا بالتحديد؟ لماذا هذا الرقم”؟
النقيب الأستاذ إبراهيم ولد أبتي: “تصور أنت عدد الملفات، أنا قلت لك إن اسنيم، خيرية سنيم، العمليات التجارية لاسنيم في الخارج، كل الصفقات التي تتعلق بشركة سوملك: الإنارة، الإنارة بالطاقة الهوائية، بالطاقة الشمسية، قضية الميناء، قضية العقارات، قضية سونمكس، قضية هوندونغ، قضايا متنوعة.. تصور حتى إن طلبت 5 محامين أو 6 محامين لكل عملية فهذا قليل. إذن في الحقيقة الناس ما هي فاهمه ضخامة حجم العمل! وعندما تكيف النيابة القضية وتحدد نوع الملفات وكبر الملفات سيعلم الرأي العام ضخامة ما تم. فبالرجوع إلى اثنا عشر ميدانا حددها تقرير اللجنة البرلمانية، وحتى الاثنا عشر كلها فيه عدة خانات. تصور أن كل خانة أعطيها 5 أو 6 محامين أو 4 محامين. فهذا يكفي دلالة أن ليس فيه أي إضرار. العدد قليل العمل ضخم. أضف إلى ذلك أن هذا العمل يتطلب تحريات في الخارج، لأن الأموال هناك أموال كثيرة مهدورة ومخزنة في بنوك أجنبية، وفي أماكن أجنبية، وهذا يتطلب كذلك عمل. الدولة الموريتانية تطلب أن تستعين بطاقم من المحامين له خبرة، له مكانة، له قدرة، له كفاءة على البحث إلى جانبها من أجل الكشف عن كل ما تم امتصاصه من أموال هذا الشعب”.
وللتعليق على هذا البرنامج الوطني المفصل الطموح الذي لا يستطيع محام مثلي يقدّر معنى “بذل قصارى الجهد والعناية في الدفاع عن الموكِّل وحفظ مصالحه” المنصوص في المادة 48 من قانون المحاماة، إلا أن يشيد به ويفتخر، فإني أرفع ما يلي إلى كريم علم الأستاذ لحسن ولد محمد الأمين وقناة “الوطنية” التي ظلت تماطل في إعطائنا حق الرد على مقابلة النقيب هذه، وتعدنا وتمنينا إلى يومنا هذا، ثم إلى كريم علم الرأي العام الوطني، المعني – قبل غيره- بالحصول على حقيقة ما يجري من وراء ظهره:
أولا. من حيث العدد والنوع: أمّا من حيث العدد فقد انعقد “نفير” قصر المؤتمرات بستين (60) محاميا. تم اكتتابهم بطريقة انتقائية وزبونية مخالفة للقانون. الشيء الذي أثار حفيظة جمهور المحامين يومها، وأسال حبرا كثيرا لحدٍّ جَعَلَ أحد زملائنا المحترمين يطرح هذه المظلمة على فخامة رئيس الجمهورية أثناء استقباله لمكتب هيئة المحامين الجديد. وهذا ما حدا بالنقيب أثناء مؤتمره الصحفي المذكور إلى النأي بنفسه عن مسؤولية الاختيار وردها إلى وزير المالية! وقد اعترف النقيب في مقابلته مع قناة “الوطنية” بهذا العدد، ورآه قليلا جدا مقارنة مع ضخامة المهمات المسندة إلى لفيفه! أما كيف تقلص العدد إلى ثمانية وعشرين (28) فالله أعلم!
وأما من حيث النوع، فتلاحَظ مسألة غريبة جدا، وهي احتواء اللائحتين الأولى (60) والأخيرة (28) على جميع نقباء هيئة المحامين السابقين! فهل رمت خطة اكتتاب هذا الكم والنوع من المحامين من طرف الدولة – لأول مرة في تاريخ الدول- إلى تجفيف منابع الدفاع وحرمان الرئيس السابق من وجود من يشار إليهم في دفاعه، أم إن الأمر كان من قبيل شراء صمت وتحييد أكبر وأفضل عدد من المحامين، أم أريد به ما هو أبعد من هذا وذلك: اتخاذ هذا الكم والكيف “شهودا” وعرّابين بوقوع جريمة مستحيلة، وبـ”تبييض” و”تحليل” انتهاك الدستور وخرق القوانين، ولم لا؟
ثانيا. من حيث طبيعة العمل وضخامة الملفات: لقد قدم لنا النقيب في رده على قناة “الوطنية” عرضا مفصلا عن اثني عشر مجالا من بينها مثلا شركة اسنيم وخيريتها، العمليات التجارية لاسنيم في الخارج (ما لي ولسليم؟!) كل الصفقات التي تتعلق بشركة سوملك ومختلف أنواع الإنارة، وكثير غير ذلك، وبيّن لنا في عرض واف ومفصل أن ستين محاميا عدد قليل بالمقارنة مع كثرة وتشعب الملفات وضخامة المهمة! وهذا شيء طبيعي جدا ومنطقي جدا!
ولكن كيف نفسر أمرين في غاية الأهمية؟
الأمر الأول، وهو تقليص العدد من ستين (60) إلى ثمانية وعشرين (28) بعد أن كان الأَوْلى رفعه حسب ما ذكره النقيب؟ فهل إن “ضخامة حجم العمل” التي تحدث عنها مُبالَغ فيها؟ أم إن إنجاز مهمة “استرجاع أموال الشعب المنهوبة” على أحسن وجه لم يعد هدفا مقدسا؟ ولماذا؟
الأمر الثاني، والأخطر والأغرب على الإطلاق، هو أن ملف القضية الذي تجاوز عدد صفحاته ثمانية آلاف وثمانمائة وثمانا وعشرين (8828) لا يوجد فيه أثر لـ”دفاع الدولة” العتيد، سوى رسالة “تعهد” باسم “نا” وصلت إلى فريق التحقيق بتاريخ 8 /5/ 2021 أي بعد “نفير” قصر المؤتمرات، بما يزيد على ثلاثة أشهر (وهذا يعني أنهم أعلنوا النفير قبل أن يُعَهَّدوا) ورسالة بإحالة “لائحة المحامين المتعهدين للدفاع عن الدولة الموريتانية الطرف المدني في الملف رقم 001/2021” وصلت بعد سابقتها بخمسة أشهر (كتبت بتاريخ 4 /8/ 2021) ورسالة من وزير المالية بتاريخ 29 /4/ 2021 موجهة إلى النقيب يبلغه بواسطتها “اتخاذ قرار بإنشاء لفيف من المحامين يمثل الدولة الموريتانية بوصفها طرفا مدنيا…”. وطلب استئناف أمر، ورسالة بتقدير الضرر والمطالبة به! خمسة أوراق فقط! ولا أثر على الإطلاق لعمل خمسة (5) محامين أو ستة (6) محامين في كل خانة؛ ناهيك عن التحريات الخارجية المذكورة في هذه الفقرة: “أن هذا العمل يتطلب تحريات في الخارج، لأن الأموال هناك أموال كثيرة مهدورة ومخزنة في بنوك أجنبية وفي أماكن أجنبية”. وعن أن “الدولة الموريتانية تطلب أن تستعين بطاقم من المحامين له خبرة، له مكانة، له قدرة، له كفاءة على البحث إلى جانبها من أجل الكشف عن كل ما تم امتصاصه من أموال هذا الشعب”!فكل ذلك أصبح هباء منثورا!
ومن هذه الحقائق نستنتج مسألتين جوهريتين:
ومن هذه الحقائق نستنتج مسألتين جوهريتين:
– أن “دفاع الدولة” – كفريقي ادعائها وتحقيقها – لم يقم بعمل مهني في الملف؛ متكلا على “عناية القاضي”!
– ورغم ذلك، ولكي نكون منصفين، فسننوه بقيامه – أو قيام بعضه – على أحسن وجه، خدمة لزبونه، بـ”تبييض” و”تحليل” انتهاك الدستور والقوانين، ودوس الحقوق والحريات، ولعب دور غير مسبوق في تشويه وتلطيخ سمعة رجل بريء بالباطل، وتضليل الرأي العام الوطني والدولي بإيهامه أن التهم التي لَفَّقَ للرئيس السابق دون أدنى بينة، إنما هي أحكام قضائية حائزة لحجية الشيء المقضي به، كقول أحدهم مثلا منتهكا قرينة البراءة المنصوصة في المادة 13 من الدستور: “إن محمد ولد عبد العزيز متهم بجرائم من الحق العام نص عليها قانون مكافحة الفساد ولا علاقة لها البتة بالسياسة، ويكفي نوع وشكل الاتهامات، بما أن الاتهامات تدور حول مبالغ طائلة”. وكانت آخر خدمة من هذا النوع الذي تتعفف عنه النيابة أحيانا، تأكيد النقيب بتاريخ 17 /01/ 2023 لإذاعة فرنسا الدولية أننا تسلمنا ملفا لا تزال السلطات القضائية تماطل في تسليمه إلينا حتى نهاية دوام يوم الجمعة 20 /01/ 2023! ومتى أصبح طرف مدني ناطقا باسم المحكمة؟!
ثالثا. تبقى مسألة الأتعاب: وهي كما قال النقيب “سر ما بيننا والدولة الموريتانية”! لكن مما لا شك فيه أنها لا تتناسب مع ما بذل من عمل في ملف القضية، من جهة، وأنه لا توجد ضمانة، أيا كان نوعها، بإمكانها أن تشفع لما ذكره النقيب من أن أتعابهم “لن تكون… إضرارا بالمال العام ولا بالخزينة العامة؛ بل سنتعاون مع الخزانة العامة لأننا بعيدين من البحث عن الثراء إضرارا بالدولة الموريتانية”!
(فلا تنظري ليلى إلى العين وانظري ** إلى الكف ماذا بالعصافير تصنع)
ومما تقدم يظهر بجلاء أن عملية اكتتاب دفاع للدولة بهذا الكم والكيف في ملف كيدي، ما هي في واقع الأمر، إلا فصل من فصول الانقلاب على الشرعية، وتغول السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، واعتدائها المنظم والممنهج على الدستور والقانون والدولة والشعب! وقد كلفت تلك العملية الخاسرة الخزينة الوطنية نفقات باهظة مجهولة، على غرار ما كلفها انتقاء “فريق تحقيق” مكلف بمهمة، وإنشاء “لجنة تحقيق برلمانية” ما أنزل الله بها من سلطان!
في الحلقة القادمة: الخاتمة!