عن أعلام الشيوعية الحمراء وثياب الجنة الخضراء/ محمد محفوظ أحمد
أكثر الموريتانيين العاديين الذين ألتقِيهم وأسألهم عن رأيهم في “تحمير” العلم الوطني، لا يوافقون على ذلك، وبعضهم يبدي استنكارا شديدا له، واشمئزازا من العَلم الجديد المقترح!.
ولكن لهم في تفسير ذلك طرائق قددا: فمنهم من يتشاءم باللون الأحمر، ويعتبره لون الدم المسفوح النجس، أو المُراق قتالا وفتنة… وأكثرهم إنما يحبون العَلم الوطني كما هو، ويحزنون لمجرد امتداد يدِ أي سلطة أو جهة عليه، بأية حجة كانت.
والحقيقة أن الحجة التي ساقها أنصار ذلك التغيير تتضمن مغالطتين كبيرتين:
الأولى: جعل المجاهدين في سبيل الله، الذين قاتلوا النصارى بسبب كفرهم، “مقاومين” من أجل “الاستقلال” الوطني، يقاتلون “المستعمر” على “احتلاله” للأرض، لا على كفره ولا ملته المخالِفة! (والحقيقة أن فرنسا نفسها هي التي أوحت للموريتانيين بالاستقلال وساعدتهم عليه وعلى الدفاع عنه، ومع ذلك اختاروا علما لا يشبه علمها ونشيدا لا يشيه نشيدها!).
الثانية: القول إن “تحمير” العلم فيه تكريم لهؤلاء المجاهدين أو المقاومين، وتذكير بدمائهم الزكية.
وفي هذا الجزء أيضا مغالطتان فادحتان:
أولا: إن اللون الأحمر قد أصبح ـ سياسيا وفكريا ـ في عصر الدولة الوطنية، لونَ شعارات الشيوعيين، واليساريين عموما؛ منذ اتخذت الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي العَلم الأحمر. ثم تبنت الثورة الشيوعية في الصين نفس اللون شعارا لها ولونا لرموزها المختلفة… ومن ثم صار لونا عالميا للشيوعية.
ويتضمن “تخليد” المقاتلين في سبيل الوطن باللون الأحمر، معاني ودلالات علمانية، بل وإلحادية؛ فلسفتها إنكار معاني “الشهادة في سبيل الله”، والتشكيك الخفي في جزائها الذي هو الحياة والخلود في الجنة (أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). فبدلا من التفكير في أن هؤلاء المجاهدين ينتظروننا في الجنة ـ إذا عملنا بعملهم ـ يُصرَف النظرُ عن تلك الطريق “الحياتية”، إلى الإيحاء بانتهاء أجسامهم وأرواحهم وبقاء “ذكرى” دمائهم مبهمة في خط صغير بلون “أمَّمَه” الملحدون الدهريون، وجعله التاريخ المعاصر “ماركة” لهم! لا ينازعهم فيها سوى “فلانتاين”!
ثانيا: لو افترضنا أن القصد هو الإشارة إلى دماء الشهداء، كما يزعم البعض، فإن أكثرية الموريتانيين لا يستوعبون هذه العلاقة. ولا يمكن أن يستسيغوا تكريما للشهداء أفضل من الإشارة إلى أنهم يتنعمون في الجنة؛ والجنة ثابت لها اللون الأخضر (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ)؛ فكأنَّ إبدالهم لونا آخر، فيه تجريد لهم من ثياب الجنة تلك!
الحاصل أن تشويه العلم الوطني بخطين أحمرين، وصفهما أحد الكتاب اللامعين بـ”شفتين حمراوين، كشفتي مومس”… لا يعبر بأي لغة ولا أي معنى ـ في بلاد المنارة والرباط على الأخص ـ عن الجهاد ولا حتى المقاومة، بل ربما تضمن من معاني الإساءة على المجاهدين، أكثر مما يزعم أو يتوهم أنه تكريم لهم! وإذا كانت دول عديدة وضعت اللون الأحمر في أعلامها، فإن بلدنا لم يضع اللون الأحمر في علمه، وقد ارتضى لون علمه كما ارتضى ألوان شعبه. وفي أعلام كثير من الدول ألوان أخرى غير الأحمر، ما ذا سنفعل إزاءها هي أيضا؟!
ولارتفاع الأصوات في كل مكان ضد هذا التغيير وهذه التبريرات بالذات، بدأت الحكومة وأشياعها في “تعميم الفائدة” من التكريم، وجعل معانيه المزعومة أكثر واقعية بالقول إنه تكريم لشهداء الجيش الوطني في الماضي القريب والغد المطلق. والحق أن هؤلاء كان جهادهم شرعيا وكان في نفس الوقت من أجل الوطن وذبا عن استقلال دولته!
ولكن هذا “الاستدراك” ـ إن صح ـ فإنه أشبه بعمل طبيب العيون “الفائت” الذي اقتلع العين! ففضلا عن تضمنه فألا سيئا بسقوط مزيد من جنود الوطن ـ لا قدر الله ـ فإنه يتضمن تنكرا واضحا واستخفافا فاضحا بأرواح شهداء جيشنا الوطني وقوات أمننا الشجعان الذين ضحوا بدمائهم دفاعا عن العلم الوطني ـ كما هو الآن ـ واستقلال الدولة تحت سمائه، طوال نصف قرن…!
فلماذا كانوا يرفعونه ويقدسونه طوال هذه السنين وعلى تعاقب الحقب السياسية والعسكرية… لماذا لم يرمه ضابط أو جندي ويطالب بوضع خطين أو ثلاثة عليه قبل أن يرفعه في الميدان؟!.
إن تغيير العلم الوطني الذي نشأ جيشنا تحته واحتضنه بحب وتقديس، في منشطه ومكرهه، لهو اليوم أكبر إساءة على هذا الجيش وتعدٍّ على تضحياته ومشاعر ضباطه وجنوده الشهداء والأحياء، العاملين والمتقاعدين…!
وبالتالي فإنه من الأفضل أن يطلق على هذا التغيير اسم آخر، ويلتمس له معنى آخر: بل يكفي أن يكون “لوحة” قدمت لفخامة رئيس الجمهورية مع شرح مزيف، أو يكون فخامته هو من تخيلها ورسمها؛ وهذا في واقعنا الديماغوجي يكفي لجعلها في نظر البعض إبداعا فريدا وفتحا مبينا، يجب أن يُقرر ويفرض كغيره من القرارات الرئاسية “الحكيمة”!
إن تكريم الشهداء، والمقاومين، في ملتنا، لا تعوزه السبل ولا الوسائل، وإنما يحتاج للإرادة “الصادقة”.
يكرم هؤلاء الأبطال بتدريس واستلهام سيرتهم، من التدين والتضحية وحب الإسلام وقيمه ولغته، لغتهم؛ وتكريم أبنائهم وأحفادهم، وإطلاق أسمائهم على الشوارع والمدارس والمعاهد والمساجد… وإحياء وتنمية قراهم، وإقامة منارات عند مصارعهم، وشق طرق إليها ليزورها أحفادهم وغيرهم، فيتأسى بهم النشء ويتذكرهم ويقدرهم…
**
النظام الديمقراطي الحقيقي يقوم على الاختصاص، وتقاسم الصلاحيات؛ وهذا يعني أن كل هيئة، من الرئاسة إلى المجلس المحلي، مقيدة التصرف في نفسها (بالأغلبية) ومن غيرها من الهيئات الأخرى.
لذلك قد يتقدم الرئيس أو البرلمان، أو أي طرف مخول، بمشروع قانون أو مشروع آخر، فلا ينال الموافقة من هيئته، أو ممن له سلطة إسقاطه؛ فيسقط ويُعدل عنه بالاستبدال أو التعديل أو الترك… هذا هو الطبيعي، ولا يعني انتقاصا ولا تحديا شخصيا لأحد.
أما ديمقراطيتنا فيسقط جلدها الشفاف عندما يتعلق الأمر بالتحفظ على أي مشروع يتقدم به الرئيس أو حكومته… ليظهر الجلد السميك للديكتاتورية الذي لا يفله شيء!
وهكذا: إذا رفض مجلس النواب أي مشروع يتقدم به الرئيس، فينبغي تأديبه أو حله، وإذا رفضه مجلس الشيوخ فيجب تأنيبه وتخوينه، وإذا وقف الدستور نفسه في وجهه فيستحسن هدر أحكامه والإلحاد في مواده…!
محمد محفوظ أحمد
99 تعليقات