لماذا يبتسم الشهداء قبل الرحيل؟.. قوة الإختراق وسحر البصيرة!/ خالد شحام
26 فبراير 2023، 01:42 صباحًا
عادة عندما تتم كتابة مقالة كنوع من الرد على التساؤلات فربما يمنحها هذا المستوى حصرا لنطاق ضيق وضعفا غير ظاهر ولكن عندما تكون الأسئلة أكثر أهمية من الأحداث وتحليلها ومجرياتها تصبح الكتابة هنا شيئا لازما لأن بعض الأسئلة تمنح الحياة وعدم الإجابة عنها يسلبها منا جميعا .
في رسالة أرسلت لي من أحد المتابعين يطرح فيها جدلية جدوى تشريح هذا الواقع الأسود وانعكاس ذلك على نفسيته كقارىء ومن ثم ما جدوى هذا التفكيك للواقع ؟ ألا يعني ذلك أن فريق الشر في هذا العالم أحكم قبضته علينا وعلى العالم أجمع ؟ ألا ننتظر الأسوء ؟ وما هي نهاية هذه الجرعات المتلاحقة من العلقوم والهزائم والعيش المر لأمتنا العربية ؟ ألا يقتل الصهاينة كل أسبوع حفنة من أبناء فلسطين دون توقف ؟ متى سنكسر القيود ونشعر ببعض الأمل ومعنى الحياة ؟هل من بصيص نور في أي انتصار لنا جميعا ؟ هل من بارقة أمل وخلاص لمصير الطفل والمرأة والأسرة والمجتمع العربي ؟
في الواقع كنت أعد مقالة بعنوان أسئلة وأجوبة حول الزلزال وادعاءات العالم الهولندي ولكن إجابة هذه التساؤلات أكثر أهمية من كتابة أية مقالة في اي اتجاه كنت أنوي الكتابة حوله لأن مثل هذه التساؤلات قد تشكل نخرا وضعفا لا نحتاحه في هذا الزمان في صفوف المثقفين والقراء العرب لأن معركتنا هي معركة الثبات مع الايمان قبل أي اعتبار آخر .
إن الإجابة الشافية التي يمكنها أن تجيب عن أسئلة المتابع وعن أسئلة كل شيء وتحل كل الغموض وتتنبىء بكل ما ينتظرنا وينتظر هذا العالم لا تأتي من فراغ ولا تأتي من قدرة عبقرية في التحليل ورسم صورة ذكية أو خارطة تنبؤية للواقع ، لا تأتي هذه الاجابات والرؤيا من صحافي أجنبي مرموق وضليع في السياسات الدولية ، إن المكمن الحقيقي لهذا النوع من الإجابات يختبىء في الثوابت والركائز الفكرية الأساسية التي تشكلها الثقافة والرؤية الإسلامية الشمولية وليس غير مهما حاولنا البحث والتقصي ، إن أية قراءة سياسية شمولية لا يمكن ان تمنح القدر الكافي من الصحة والصواب او الرؤية البعيدة المدى مهما بلغت من الذكاء والحنكة والفلسفة ، لا يمكن لأي نمط او فكر أن يقدم إجابة شافية ذات عمر طويل او إجابات نهائية مؤكدة شاملة لمصير هذه الأرض ومصير البشر ومسار الظلم والتجبر في هذا الكون ، لماذا ذلك ؟
الجواب لأن جميع أشكال هذه الطرق الفكرية قصيرة ومقترنة بقدرة العقل البشري التي هي محدودة ومكممة في نهاية المطاف ولان تحليلات البشر مشدودة بأزمان واماكن معلقة فيها وذات حيز محدود مهما كبرت وثالثا لأن كل الفكر البشري هو فكر خاضع لمعايير الميول وعدم النزاهة وتفسير ما يجود به عقله ورغباته أيضا بنفس المزج ، وفي مثل هذه الحالات تصبح الإجابات المقدمة في الرؤية الدينية السماوية الحق هي الأثبت والأقوى والأقدر على تقديم الإجابات الشافية للروح الإنسانية وتصبح ذات أثر اعمق في منح الأمل والثقة والرؤية الصحيحة .
هنالك مصطلحان أساسيان يجب أن نتمكن من فهمهما كي نخرج بشيء مفيد من كل هذه العاصفة من الأفكار المتشابكة والشائكة ، المصطلح الأول هو مفهوم الإختراق الفكري ، وهذا المصطلح يدل على نفاذ شيء في شيء وتمكنه منه والاستيلاء على داخله دون أن نرى أو نلمس تغيرا فوريا أو محسوسا مباشرة ، الاختراق الذي نتكلم عنه هو الاختراق الفكري الذي يبدأ ناعما بالتعرف والتشخيص والتماس مع فكرة جديدة أو نمط جديد أو اسقاط جديد أو هيكل ثقافي جديد ثم تفاعله مع جانب من رغبات الإنسان وقناعاته ثم اندماجه معه بحيث يبدا التأثير في القبول ثم يطرأ التحول السلوكي وأخيرا يأتي الوصول إلى مرحلة من الإدمان والاستعداد الدائم للتقبل للفكر الجديد والتعايش معه على أنه شيء حميد ومساعد ومريح للنفس ويحقق مكاسب أعلى ، إنه نمط حياة جديد يحاول الثورة على القديم وإظهار مساوئه وإحقاق نفسه بطرح بديل لامع ويحقق الأمنيات .
هذه المراحل قد تتطلب بضعة شهور أو سنوات وندرة نادرة من تستعصي على الاختراق ، نحن جميعا والأمة العربية والاسلامية والعالم بأجمعه نعاني من ظاهرة الاختراق الفكري بدرجات متفاوتة وبأشكال متعددة وكل منا في داخل سلوكه شيء من الاختراق الفكري ، أخطر أشكال الاختراق الفكري ذلك الممنهج والمرسوم والمعد سلفا لغسيل أدمغة الأجيال وقلب كل النظم الفكرية رأسا على عقب ، العولمة الأمريكية هي سلاح اختراق فكري واجتماعي سلوكي مبرمج ، تعلق الشباب بآخر نتاجات المجتمعات الغربية وستايل الحياة الغربية هي اختراقات فكرية ، المواطن العربي الذي قد يعتقد بأن الكيان الصهيوني متحضر ويستحق أن نتعايش معه هو بكل صراحة حمار مخترق فكريا بأعلى درجات الخطورة ، ربة المنزل التي تغرق في متابعة المسلسلات والأفلام المصرية والدراما الخليجية والمسابقات الرمضانية الثعبانية هي إنسانة مخترقة فكريا وسلوكيا ..إن الأختراق الموصوف في كل هذه الأمثلة يوضح كيف يمكن تجنيد الإنسان طوعا وبقوة ناعمة ليصبح جنديا من جنود الخفاء في جيش النبش والشَّد الخلفي الذي يعيش بيننا دون أن ندرك خطورته والمستعد لعمل اللازم في الزمن اللازم .
عندما نتكلم عن الاختراق الفكري فنحن نتكلم ضمنيا عن وجود مضاده ، هذا الشيء الذي يحاول الصد وكبح عملية الاختراق هو المنظومة الأخلاقية الدينية والعقائدية او الايديولوجية لدى كل منا ، وهذا النسيج هو حائط السد الأساسي في تخفيف ضرر الاختراق أو منعه وحدوث الاختراق يعني فشل وسقوط السد والحاجز ، بعض الأفراد يمتلكون حوائط صد عالية المتانة وذات سماكة ووسائط معتبرة والبعض أقل بدرجات والبعض الآخر لا يمتلك هذا الحائط أصلا فيما بعض آخر لديه الأهلية التامة والجاهزية التامة ويفتح ذراعية ورجليه في انتظار عملية الاختراق لايمانه بعقائد مضادة لنهج أمته العربية الاسلامية .
إن أولى المهام التي نجح فيها أعداء الأمة تتمثل في التمكن من الاختراق الفكري وتجاوز كل الضوابط العربية الاسلامية التي صانت وحمت مجتمعاتنا لفترة طويلة ومنعت الأعداء من التغلغل إلى عقول الشعوب ولهذا السبب لم يعد من السهل تمييز الوجه او المعلم الذي يميز مجتمعات اليوم فهي مجتمعات عربية تؤمن برسالة التوحيد ولكن سلوكها فيه الكثير من الانحراف و المنحرفين الذين ينكرون في سلوكهم حقائق الإسلام ، هذه الأمة تنطق باللغة العربية ولكنها تحتقر وتمارس الاضطهاد ضد هذه اللغة وانقلبت عليها بلهجات وتسميات تسيء أكثر مما تحسن ، هذه الأمة تعبد في النهار وتكفر في الليل والعكس صحيح ، تدعي الحرية والعدالة ولكنها تمارس أبشع أشكال العنصرية والظلم والتفريق وتغيب عنها شمس العدالة ، إن الاختراق الفكري هو من اوجد الصورة الأولى الهزيلة في داخل النفس العربية وصنع مجتمعات تركض وراء اشباع رغباتها العضوية والتخلي عن الكرامة ومعاني الانسانية وسمو الروح البشرية التي حررها الإسلام ، هذا المصطلح هو المرجع الأساسي في تفسير الوهن الذي أصاب هذه الأمة .
المصطلح الثاني الذي يلتصق بقوة والمستلزم للمرحلة التي نعيشها وله ضرورة معيشية مثل الماء والهواء هو مصطلح البصيرة والذي يصبح بمثابة الجسر الناقل نحو حيز الثقة والايمان ورؤية حقيقة المستقبل وكأنها شيء ملموس واقع ، مصطلح البصيرة ربما هو من المصطلحات الدارجة والكثيرة الحضور على الألسنة ولكن قلة قليلة منا تفهم كيف تتعامل مع هذا السلاح الفائق القوة وقلة قليلة تستطيع استخدامه والتعاطي معه .
إن البصيرة هي قوة خارقة في النفس البشرية تؤهلها لرؤية وإحساس ما لا تتمكن الحواس العادية من فهمه او التعامل معه ، إنها طاقة خاصة تكمن في اعماق الروح البشرية تمنحها القدرة على نفي ما تراه العين وتسمعه الأذن وتتجاوز معطيات هذه المدخلات الحسية ، إنها موهبة وهبة للروح المؤمنة تمكنها من الشعور بالطمأنينة وسط أشد الظروف حلكة وأكثرها معاناة لأنها تؤمن وتدرك ادراكا متشربا بأن كل ما تراه من معاناة وشقاء وارهاق روحي هو باطل وزائل وعابر وأن ما وراءه أعلى وأسمى من كل شيء ، إنها القوة العجيبة التي تمنح الذي يموت عطشا البسمة الكافية لأنه يعلم أن الماء قريب وهي التي تمنح الشهداء الطمأنينة قبل الرحيل بثوان .
في العقول السطحية المخترقة ذات المستوى الأول لا يمكن إنكار ما يقرؤه العقل وتراه العين وتسمعه الأذن حيث تخضع كل الأشياء للعوامل المادية والقوانين العلمية المحسوسة والمجربة والتي تؤكد صحة ما ندرك ، ووقوع هذا الإدراك في النفس البشرية يجعل رؤية الحقائق والنتائج أمرا محتوما ، ولهذا السبب فعندما نقرأ واقع الأمة العربية الأسود وفقا لهذا المنطق فكل المؤشرات والمعادلات الرياضية ستقول بأن الهزيمة والخسف هو المصير المنتظر وبالتالي فإن رد الفعل المنطقي سيكون الشعور بالاحباط والارتداد نحو الأسفل والاختباء في المنطقة المظلمة من الضعف البشري ، وهذا تماما ما يحدث مع عامة الناس وعامة المواطنين الذين يقيسون النصر بعدد الجيوش وحجم التجهيزات العسكرية والعتاد التقني وسعة المعرفة العلمية ومدى دقة وضبط الهياكل التنظيمية والادارية في صفوف أعداء الأمة .
إن من يقرأ بحواسه التقليدية ما يجري على الساحة الفلسطينية تحديدا وما يراه من تمكن الصهاينة على الأرض الفلسطينية والشعوب العربية وتآمر حكام العرب معهم والسلطة الفلسطينية المجرمة لا يمكنه إلا أن يستنتج بان هذه القضية خاسرة وانها ستوارى التراب في أقرب أجل ممكن ولكن عين البصيرة تؤكد غير ذلك لأن المؤمنين الذين ثبتوا على عهد فلسطين وعهد الأمة اكدوا للمرة الألف بأن المقاومة الفلسطينية تفوقت على كل ذلك ولم يتمكن الصهاينة ولا حلفاؤهم من انتزاع مكانة واحقية فلسطين من قلوب الأجيال على مر اكثر من مائة سنة .
من يقرا بحواسه ما يجري في لبنان والعراق وسوريا واليمن من تركيع وإذلال وامتهان لكرامة المواطن العربي سيصل إلى نتيجة حتمية بأن بلادنا هالكة لا محالة وبان الشعوب ستصل إلى نقطة النهاية قريبا وتضيع في حزمة قرارات اجرامية وضعها حفنة من المرتدين والخونة لبلادهم ولأوطانهم ، ولكن من ينظر بعين البصيرة يدرك تماما أن كل ذلك مؤقت وزيف مارق .
هنالك قوة مدركة تماما تملأ هذا الكون وتتعدى كل الأقطار وخطوط الحدود الوهمية ومن لديه البصيرة ليفهم هذه القوة فهي اعظم بكثير من كل العقول البشرية المحدودة القوة ، هذه القوة الهائلة لا يمكنك أن تراها بشهادة علمية جامعية تقليدية ، أنت تحتاج رزمة من الشهادات العالية والخبرات الرفيعة لتبدأ فهم هذا وما العلم هنا إلا مجرد أداة فحص صغيرة جدا في معبد هذا الكون ، هنالك عظمة كبيرة أكبر بكثير من كل مستكبري الأرض وطغاتهم وجبروتهم ، هنالك قوة خالقة تتجاوز المخلوق الهزيل الضعيف المصنوع من روابط الكربون الرباعية وتضع حدا لاستعلائه ومحاولته لتجاوز حدوده وتمنحه دليل ضعفه في قابلية فنائه وزواله بمجرد تحلل جزيئاته ، هنالك قوة فائقة لا تحيطها الأقمار الصناعية ولا يحكمها الموت ولا قوانين الهرم ولا المرض ولا العمر وهي حاضرة منذ ولدت الأرض وحتى فنائها ولا تؤثر فيها القنابل الذرية ولا الأسلحة الباليسيتة ولا الجيوش الالكترونية ولا كل الأسلحة التي سينتجها العقل البشري في القرن الخمسين بعد الميلاد ، هذه القوة هي التي تحاسب الجميع ولا يمكن للجميع أن يحاسبها ، إنها قوة فوقية بالمطلق وغير قابلة للجدال أو التأويل أو التشكيك وهي التي تقرر الحاضر والماضي والمستقبل بعكس ما يتوقعه كل البشر .
هذه القوة المطلقة وضعت ما يعرف بإسم السنن الكونية أو القوانين الحتمية بلغة القرن الحالي ، هذه القوانين تقول بالحرف الواحد بأن الطغاة لامكان لهم على الأرض وتقول بالحرف الواحد بأن الباطل خاسر وأن الأرض يرثها العباد الصالحون ، هذه القوة المطلقة تقول بالحرف الواحد رسالة واحدة من ضمن مئات الرسائل والسنن لمن في قلبه ذرة من شك او خوف او ريبة بان النصر هو حليف الصابرين وأصحاب الحق والمصلحين في الأرض واما كل من استعلى وتجبر وتكبر فمصيره هو الخسارة والدحر في الدنيا والنار في الآخرة والرسائل المطمئنة أكثر من أن تعد .
الرسائل كما تعرفون لا تبلى ولا تفتر لأنها من لدن حكيم خبير ولأنها حية خالدة في كل قلب مؤمن وتقول بالحرف الواحد بان قوة الله حاضرة واعية ولا تغيب مهما بدا من العكس و تتدخل عندما يدب اليأس وتمتلى الأرض بالظلم والجور ويفقد الناس عقولهم وايمانهم ويتنازلوا عن إنسانيتهم …………هذه هي الرسالة الخالدة كما هي وردت قبل ألف وسبعمائة عام وتتجدد اليوم في روحها ومعانيها لكل مواطن عربي يصون الرسالة ويحمل الأمانة :
( حتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) إن الله لايخلف وعده وهذا هو بصرنا وبصيرتنا ومصدر قوتنا !