ربما تمضي بعض الأخبار أو الأحداث دون أن تُمنَح حقها الصحيح من الفهم والرؤية والاستشراق العميق، ولكن الطرح الذي قدمه الأستاذ عبد الباري بالأمس في مقطع الفيديو الأسبوعي منح بعض التفاصيل الطارئة وقفة خاصة.
لم يكن مفاجئا ذلك القرار الذي اتخذته هيئة ( الفيفا ) في تنسيق العقوبات ضد أندونيسيا و(حرمانها) من استضافة كأس العالم للشباب تحت سن العشرين عقب رفض حاكم جزيرة بالي قبول استضافة المنتخب الصهيوني دعما ومؤازرة للقضية الفلسطينية العادلة وتنديدا بما تقوم به دولة الكيان ضد الشعب الفلسطيني، لا يمكن لنا أن ننسى المواقف المشرفة للشعب الأندونيسي المعاصرة والسابقة في دعم ومؤازرة الحق الفلسطيني وليس أمامنا في مثل هذه المواقف سوى توجيه رسائل التقدير والمحبة لشعب اندونيسيا المسلمة وقياداتها الواعية والمنتمية لحقيقة الانتماء.
الفيفا – هوليوود – الصحة العالمية – البنك الدولي – مجلس الأمن- جامعة الدول العربية – منظمة التعاون الاقتصادي – المعهد الدولي للديموقراطية- الاتحاد الأروبي – المحكمة الدولية لجرائم الحرب – فيسبوك وجوجل وتويتر وكل عصابة بائعي السراب …….كل هذه المؤسسات أو الهيئات أو المنظمات إنما هي منتجات عولمية صعدت أسهمها على مستوى شمولي لأنها وكما يفترض فيها تقدم ( فضيلة ) ما وتستهدف تعزيز القيم الإنسانية والحضارية وتعكس تقارب الشعوب والثقافات وتوحد سكان المعمورة في رؤيتهم لحياة أفضل ، هذا على الأقل ما يتم إعلانه وطرحه عند تسويق هذه الهيئات ورؤيتها وغاياتها وتطلعاتها ، للأسف الشديد ليس كل ما يلمع ذهبا ولا كل ما يروج له من ادعاءات هي حقائق صحيحة مريحة وإنما هي محض سراب بقيعة يحسبه المظلومون والمحرومون ماءا ليجدوا عنده الكاوبوي الأمريكي فيرديه قتيلا !
كل هذه المؤسسات إنما هي جزء من النسيج السياسي للنظام العالمي بحلته الجديدة ، هي جزء من شبكة العنكبوت او فخ الأرملة السوداء الامريكية التي يحسب الجاهل بيتها آمنا أو متينا ليكتشف بعد تورطه أنه أوهن البيوت وأشدها خطرا ، كل هذه المؤسسات حاضرة ومذخرة للتدخل عند اللحظة المناسبة وإطلاق القرار الواخز المناسب بحق العرب أو المسلمين أو الشعوب المستضعفة في الأرض ولا تتعدى كونها حوائط صد حضارية مفصلة لغربلة ما يناسب الفقه الغربي الضال والمنحرف ويصد ويعاقب ما عداه او يساهم في زيادة إذلاله ، وكل من يلوذ بها أو يراهن عليها ضمن هذه المعطيات الحالية فهو خاسر أو فاشل .
نستطيع أن نعدد بمعيتكم خلافا للفيفا قائمة طويلة وعريضة من المؤسسات الدولية والعالمية التي تدعي الريادة في عدم تحيزها والقيام بأغراضها ودورها بشكل إنساني وعالمي دون تحيز لطرف على طرف ولكنها في لحظات الاحتكاك والاختبار الصحيحة تكشف عن وجهها الحقيقي وتشمر عن ساعديها لنرى الوشم الصهيوني مختوما على امتداد الذراعين حتى العنق ، هل تجرؤ مؤسسة فنية عالمية بحجم هوليوود مثلا أن تطرح فيلما أو مادة مصورة حقيقية حول حقوق الشعب الفلسطيني او عمليات الإبادة التي تقوم بها الدولة العبرية ؟ هل يمكن مثلا لمؤسسة الصحة العالمية أن تقدم تقريرا حقيقيا وصادقا حول حالة الأسير الفلسطيني أو المواطنين في غزة الذين يعانون من ظلم الحصار و الفقر والعجز والحرمان من الأدوية والمعدات الطبية والعاهات الناجمة عن القصف الصهيوني طيلة السنوات الماضية والحروب التي شُنَّت على القطاع ؟ هل يمكن للبنك الدولي مثلا أن يقدم لنا تقريرا حقيقيا عن الحالة الاقتصادية والمالية للدول المنكوبة والمنهوبة في هذا العالم وخاصة تلك التي فتكت بها الولايات المتحدة مثل العراق وسوريا واليمن وفنزويلا وكوبا وايران وغيرها ؟ هل يمكن لهيئة الأونروا أو اليونيسيف مثلا أن تقدم لنا تقريرا حقيقيا بعيدا عن التزوير والكلمات المحسنة والمرواغة عن البطالة والفقر والحرمان ومعاناة أطفال ونساء فلسطين أو اليمن أو سوريا وحالة القتل البطيء التي تجري بحق الطفولة والامومة والأسرة الفلسطينية تحديدا ؟ هل يمكن لما يسمى بمحكمة الجرائم الدولية التي نصبها الكَذّابون أن تقدم إدانة واحدة لمجرم من مثل نتانياهو أو ليبرمان أو موفاز أو حاخام مثل بن زفير أو ممن قبلهم وبعدهم والذين تتلوث أيديهم بدماء أطفال غزة وقتل الشبان الفلسطينيين ؟ هل يمكن لهيئة الطاقة الذرية النزيهة والمحايدة والحريصة على السلام والسلم العالمي ان تقدم لنا تقريرا حقيقيا حول خطورة المواد المشعة والتجارب النووية الاسرائيلية في بئر السبع وفي المفاعلات النووية غير المعلن عنها والتي تشكل خطورة أعلى بكثير من العزف على نغمة التخصيب الايراني ؟
في الحقيقة الشديدة المرارة أن هذه الهيئات ليست إلا دكاكين استعمارية محسنة المظهر تبيع الدونات الأمريكية المسممة لكل الشعوب وكل الثقافات ،إنها الذئب في قصة ليلى الذي يرتدي المعطف الأحمر ليستدرج ليلى المسكينة البريئة ويضحك عليها ويبتلعها حية ويظفر بكل ما لديها !
لقد شاهدنا في مونديال قطر نوعين من المونديال ! النوع الأول هو ذلك الرياضي التقليدي المنتظر الذي جذب وشدَّ كل العالم ، النوع الثاني هو مونديال الانقلاب الأخلاقي الذي تفرج عليه العالم وتأمله طويلا من جميع أشكال الحقائق حول أكذوبة الحيادية لمنظومة الأخلاق الغربية ونزاهة الصحافية الغربية والتي اشتغلت في تكريس عنصريتها وحقدها على العرب والمسلمين وشاهدنا حملات الاستنكار والتنمر ضد قطر بوصفها العربي الإسلامي ، لقد شاهدنا أيضا النموذج الديموقراطي الفرنسي في تعاطيه مع المسلمين والقضايا المتعلقة بحقوق المسلمين في فرنسا وتابعنا باستغراب انقلاباته الدستورية للاديان وحقوق المواطنين العرب بالذات وكيف انحاز الاعلام والقانون ضد العرب والمسلمين ، لماذا بعد كل ذلك نستغرب أن تتصرف الفيفا بهده الطريقة ؟
في الركن الاخر من قرار حاكم بالي هنالك في طرف الظل شيء خجول يتوارى بارتباك و يحاول إخفاء وجهه من هذه القصة ! إنه نحن ! نحن شعوب العرب والمسلمين بالتحديد ، إنها أكبر مدعاة للخجل والعار أننا أصبحنا نبحث عن مؤازر أو داعم أو مؤيد لقضية فلسطين والانتصار للشعب الفلسطيني خارج الحيز العربي اللسان ! إنه شيء من العار أن دولا ناطقة بالعربية وتدعي الإسلام تتصالح مع الكيان الفاضح بإجرامه وأفعاله وقتله لشعب فلسطين في الوقت الذي يكتشف فيه العالم بأوسعه حجم وفداحة الانحطاط الحضاري الذي يتمتع به هذا الكيان من سرقة الأرض وقتل الإنسان البريء واعتقال النساء والأطفال والأحرار ، من العار والسقاطة أن رجلا يحمل الديانة الهندوسية يمتلك من الضمير أكثر من كل هؤلاء الذين يرفعون راية الإسلام ويهللون بإسم الله الذي أعلنوا عليه الحرب بالمهرجانات والخيانات والتحالف مع أعداء الأمة الأشد .
كان مزروعا في عقولنا منذ سنوات طويلة بأن الصهاينة يحكمون قبضتهم على العالم من خلال نفس الأدوات القديمة الجديدة التي تتحكم بعالم اليوم وبالكوكب بأكمله وهي البنوك – الامبراطوريات الاعلامية -شركات الطاقة والنفط والمعادن والسلاح …. ، هذا الوضع يتغير اليوم وهنالك بشائر كثيرة على أن مقاومة النظام العالمي الذي نتكلم عنه كثيرا في المقالات يتعرض للصد ولو بشكل صغير من هنا وهناك ، العالم يتململ ويبدي ضجره من هذه التجاوزات الفادحة ، هذا العالم الذي نعيشه لم يعد مغفلا ولا هو غائب عن الحدث ، إنه يدرك في أعماقه حجم وتداعيات الظلم الصهيوني الذي يوقعه على الشعب الفلسطيني من القتل والاغتصاب وسرقة الأرض وأصبح يدرك أيضا بأن الصهيونية العالمية او النظام العالمي الجديد الذي تتربع في قلبه هذه الدويلة تتعدى أطماعه ومخاطره فلسطين والشعب الفلسطيني ، الخطر يتهدد هذا العالم بأكمله بكل دولة من دوله والعربدة والزعرنة التي يبديها قادة الكيان إنما تعكس نَفَسَ السيد الغربي الاستعماري الإقطاعي الذي حاربته كل شعوب الأرض في القرون السابقة ، إن رفض استقبال المنتخب الصهيوني ليس كل شيء ويتعدى قصة التضامن مع الشعب الفلسطيني لأن الإجرام الغربي والظلم الأمريكي تعدى كل الحدود وتجاوز كل الخطوط الحمراء والصفراء ، إن قرار حاكم جزيرة بالي يعكس قرار كل أندونيسيا ويعكس كذلك رأيها فيما يجري في هذا العالم وتعلن بالإيماء موقع اصطفافها ووقوفها في طابور المنتصرين المقاومين .
العالم يتغير والحرب على الصهيونية والنظام العالمي ستتخذ أبعادا وتفرعات وتشعبات أقوى وأوسع مما نتخيل لأن هذا العالم ضجر من عربدة هؤلاء وضجر من هيمنة الدولار وما تسبب به من مصائب وإذلال وامتهان لكرامة الشعوب وضجر من اصطفافه مع كل انحراف وإجرام وظلم ، العالم يتغير وبسرعة لا نكاد نصدقها وما كنا نحسبه ثابتا وصامدا لا ينهار سيقول اليوم غير ذلك ونرى فيه غير ما سبق ، أن شعوب الأرض أدركت بأنها تتعرض للسرقة والاغتصاب وابتلاع حقوقها السيادية وكرامة شعوبها على يد المنظمات الأمريكية التي تحمل الأسماء المنمقة والمغرية من الحقوق والانسانية والجماليات ولكنها تنطوي على التجسس والانحياز الأعمى ضد شعوب العالم وما رفض أندونيسيا إلا صيحة رفض شمولية لكل هذا الظلم .
من الواضح أن الغرور والاستعلاء وصل الذروة وأعداء هذه الامة يتصرفون بنزق وعصبية وبدأوا بفقدان صفة الاتزان ، عقدة التفوق الصهيوني وتغلغله في كل مسامات هذا العالم أصبحت تتفكك وبشائر كثيرة تؤكد ذلك وسنوات النحس ستمضي ، عملية التطبيع والبرهمة المدسوسة التي جرت تعاني الان من مرحلة المراجعة وبداية عض الاصابع وتعداد الخسائر ، محاولات الاستحواذ الكبرى تفشلها الصين وروسيا من خلال الاتفاقيات الكبرى وايجاد البديل والشريك الاقتصادي المناسب للمستقبل العربي الذي نأمل أن يصحو سريعا في عجالة هذه التغيرات ، بالأمس وجهت البرازيل صفعة جديدة للدولار الأمريكي وقرين السوء رفيقه اليورو عندما اتفقت مع الصين على التبادل التجاري بالعملات المحلية ، الروبل واليوان يصعدان بقوة على عجوز الدولار الذي أهلك الحرث والنسل ، سلسلة الانهيارات البنكية الغربية قد بدأت بالفعل وهنالك إعادة هندسة لمساحات النفوذ الجديد على حساب القديم ، انقطاع الغاز الروسي وحيث يرفضون الاعتراف بهذه الحقيقة هو مفتاح الاضطرابات التي تعصف بفرنسا واقتصادها الذي يقترب كثيرا من حالة الاقتصاد المصري المضطربة وهو ذاته سبب تحول حياة الكثير من المواطنين الغربيين إلى جحيم لا يعرف أحد من أين جاء ، ثبات واصرار بوتين على استعادة اوكرانيا تحت جناح الطاعة الروسي يسبب جنون كل فريق الاستعمار القديم المتغطرس ويدفع بهز أعمدتهم في كل الاتجاهات .
صعود بوتين على المستوى العالمي سيشكل بداية المتغير الأساسي المهلك للمنظومة الامريكية والنظام العالمي الذي يتم فرضه ، وبالأمس وضمن حزمة الاجراءات الجديدة التي أعلنت من قبل روسيا وتوقيع بوتين على مرسوم السياسة الخارجية الجديدة تشكل أمامنا حيز جديد للصراع فنحن امام تصعيد حكيم وثقيل قادم ، الضربة القاضية للنظام الامريكي ستقع على يد الصين في لحظة المواجهة التي تقترب كل يوم ليس لأن الصين تسعى للشر أو الهيمنة بل لأن الغطرسة والاستعلاء الأمريكي لن يسمح له إلا بإطلاق رصاصته الأخيرة نحو الصين التي ينظر إليها على انها شعوب دونية لا ترتقي لمقام العرق الأبيض ، اما دولة الكيان وبعد رحلة الاستعلاء الكبير فإن شباب فلسطين والمقاومة الفلسطينية هي وهم من سيوقعون نهاية واغلاق العربدة العبرية وختام دولتهم المزعومة في فلسطين وعلى يد الشعب الفلسطين والشعوب العربية التي ما تزال على العهد .
تحية تعظيم وتقدير لشعب اندونيسيا وحاكم ولاية بالي ، تحية مثلها للشعب الجزائري و للرئيس الجزائري الذي طردهم من القمة الأفريقية ، تحية لكل إنسان حر شريف يقف مع الحق ومع نزاهة الإنسانية والفضيلة وحقوق المظلومين والمحرومين ، فلتذهب الفيفا إلى الجحيم ، لا نريد كرمكم ولا سماحكم بالاستضافة فمونديال فلسطين هو من سيدخلنا التاريخ !