حرية التعبير عبر تضاريس البيولوجيا السياسية بالجزائر/ بشير عمري
5 مايو 2023، 11:11 صباحًا
في مداخلة له عبر إحدى الشاشات السياسية بالانترنت، اعتبر الصحفي الجزائري محمد إيوانوغان بأن أزمة حرية التعبير التي ترافق أو تشكل إحدى العناصر الكبرى لأزمة دولة الاستقلال بالجزائر ومن خلالها كل الدول العالمثالثية، هي الأصل أزمة وعي الفردي بقيمة حرية الرأي والحق في الوجود السياسي، وأن أي طموح للتغيير لا يأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى، سيكون مآله بلا ريب الفشل الذريع.
لا شك بأن هكذا تصريح من إعلامي كرس دوما قلمه لمعارضة السلطة في الجزائر، يحيل إلى جملة من التساؤلات تتعلق بأنصبة المسئولية في تحقيق الحاجة العضوية والحيوية لحياة المجتمع وهي حرية الكلام عرضا واعتراضا بإزاء كل السلط المادية منها والرمزية، وهذا بحسبان الحرية أساس التكريم الإنساني وجوهر وجوده التاريخي المائز والمتميز عن باقي المخلوقات، كما أن حرية التعبير الوسيلة الأوحد لتحقيق مبدأ النقد كأداة عبور المجتمعات للمستقبل وانتقالها الحضاري من مرحلة إلى أخرى، فما هو نصيب الفرد من معركة افتكاك الحق في التعبير الحر عن الراي؟ وكيف له أن يكتسب ويكرس هذا الحق؟
وطالما أن شرط التغيير قد لازم حرية التعبير، فالحال صار يقتضي منا تقفي أثر هذه المعادلة في تاريخ التجربة الوطنية بالجزائر، كي يسهل علينا فيما بعد معرفة نصيب الفرد ومركزيته في فشل المجتمع ككل في التحقيق الانتقال التاريخي,
فمعروف أن المجتمعات التي حُرمت من وسائل سيادتها الداخلية وجُردت من سلطانها التاريخي وقيل لها حسبُك من الوطنية الاهتمام بحاجتك اللحظية البيولوجية، وسنتكفل نحن بقضايا مصيرك الكبرى، عادة ما لا تتكلم هاته الشعوب إلا حين تتألم، من جوع أو خوف أو قهر، لا تدرك مصدره ولا وسيلة فهمه وتبديده، وبذلك أُجبرت على حمل وعي خاطئ بقيمة الحرية بشمول مفهومها ونطاقاتها لتدرجها في جدول كماليات وثانويات الحياة المجتمعية، واختلت لديها بالتالي معايير الانتقاء والتفضيل والتأييد السياسي، بحيث غدا في حسبانها من يستطيع ظرفيا توفير الغذاء والكساء والطاقة بأسعار في المتناول ويضمن الشغل هو الأنجح بل الأقدس من غيره، ولا تهتم بمعرفة إن كان ذلك قد حصل بعبقرية منه؟ أم بظرف دولي طارئ؟ وما إذا كان ذلك النجاح “البيولوجي السياسي” هو ثمرة حركة وإنتاج مجتمع منتظمة في استجابتها الواعية التاريخية لما يدور في العالم أم مجرد انسياق له سيستتبعه انسحاق فيه اجلا ام عاجلا مع أول أزمة عالمية أو إقليمية أو وطنية حتى؟ وما أكثر هاته الأخيرة !
من هنا يبرز الوعي الفردي وضرورته كمسئولية أساسية ومحورية لتحقيق المجتمع المستريح الذي لا تضعفه اسرار مكتومة ولا طلاسم موشومة، فأزمة المجتمعات هي رأسا وأساسا أزمة أفراد أخطأوا بما حملوا أو لم يحملوا من وعي ضروري لتجسيد ارادتهم وحاجتهم الفردية من المجتمع وإرادة وحاجة مجتمعية من الفرد.
والحرية في عمومها ترفض الارتهان إلى الظرفية التاريخية والزمنية، بالتنازل عنها لدعوى من الدعاوى والزعم من المزاعم، سواء تعلق ذلك بمصلحة عليا أو عمومية أو مصيرية، قد يدعيها الطغاة والبغاة والغزاة والشعوب التي قبلت التنازل عن الحرية عصف بها التاريخ وظلت متأخرة في ركابه.
إن رفض حرية التعبير سيتبعه حتما فرض الطاعة والاستماع، وذلك تجسيدا لمقولة أن الطبيعة لا تحتمل الفراغ، ففي كل التجارب الأممية التي جُرد فيها الافراد من حرية التعبير واجهت فيه الشعوب حشوا كلاميا رسميا قادها لزوما إلى الخراب، بعد أن صُور لها بذلك الكلام الحقيقة المطلقة التي لا غبش فيها وريب !
لكن ما يبدو واقعا في وعي الافراد بقيمة وحيوية حرية التعبير في الواقع الجزائري ومن خلاله العالمثالثي ككل لا يبعث على التفاؤل على الأقل على المدى القصير، ولربما هذا ما يسبب الإخفاقات الثورية الشعبية المتتالية التي رامت من خلالها هاته الشعوب بسط التغيير والانتقال من زمن سياسي ووطني إلى آخر، إذ يخفق أفرادها في إدارة اختلافاتها وتنوعاتها من خلال رفض سماع تعابير وأراء بعضها البعض، ذلك لأن حرية التعبير قورنت بحرية الشتم والذم وليس حرية وحق الوصول إلى مصادر الحقيقة، في الحياة الاقتصادية، المالية السياسية والأمنية والاجتماعية، ففي الجزائر مثلا تم رصد عبر مواقع شبكة التواصل الاجتماعي أهوال من حروب ومعارك الكلام بأفحش ما في القواميس بين من يؤيدون بقاء الناخب الوطني لكرة القدم جمال بلماضي باعتباره زعيما “وطنيا” مقدسا في الأوساط الشعبية، ومن يعتبره رجلا فاشلا من بعد نجاح ظرفي تحقق له في بداية “عهدته” التدريبية الأولى حين تُوج بكأس افريقيا 2019 بمصر !
وأخيرا ليست أزمة الوعي بالقيمة الفردية لحرية التعبير محصورة فقط في الوقع الشعبي، بل أيضا لدى النخب أو لنقل أنها ابتدأت منها وانتهت اليها، فحين تسكت مثلا هاته النخب عن الاساءات والتضييقات التي تلحق بحرية التعبير من كل السلط المادية والرمزية السياسية والاجتماعية، فقط لأن الضحية ليست من العائلة اللغوية، أو الأيديولوجية أو الجهوية، فليس يغدو الامر سوى انتكاسة في الهرم الاجتماعي تكون انعكاساته وبيلة على حال الأمة دون أدنى ريب.
والمشكل الكبير هو أن هاته النخب لا تزال إلى اليوم ماضية على خطيئة تصورها لمبدأ حرية التعبير تلك، ولا أدل على ذلك من عدم قدرتها على الانتظام الهيكلي والعضوي الموحد لتحقيق سلطان هاته “الحرية” فلا نقيب اعلامي برز ولا ناقد سياسي تألق ولا قلم اجماعي تحقق لتجربة تعددية هي الآن في بداية عقدها الرابع، في حين لا تزال تقدم قوافل من الممنوعين من الكلام بشتى وسائل المنع والقمع، وهذا ما يؤكد بأن الأزمة الوطنية في الجزائر بأجزائها التركيبية والمركبة لا تزال، وستظل، مستعصية عن الحل طالما أن أهل الكلام (الإعلاميين) على مسافة واحدة من أهل الآلام (عامة الافراد) لا يتحركون بوعي تاريخي لمفهوم حرية التعبير وإنما بالحاجة الظرفية لها المتسقة والملتصقة مع الحاجة البيولوجية الخاصة.