بإمكان أي متأوّل سياسي من أي اتجاه أو مذهب أن يقول ما يريد عن حزب الله وطريقته في العمل، أن يعتبره حزباً طائفياً، إيرانياً، شمولياً، راديكالياً، إلا أنّه لا يمكن أن ينكر أنّه إحدى العلامات الكبرى في تاريخ لبنان والمنطقة. وإحدى مفاجآت القرن العشرين. بالنسبة إلى جيلي الذي فتح عينيه على الحرب الأهلية واجتياح (إسرائيل) للبنان، كان الإحساس جميلاً حين انطلقت مقاومة حزب الله. معها، سقطت أحلام الفرج الكبير على أرواحنا كوابل عظيم، وإن لم يكن وابل فطلّ من الأمنيات التي تلامس تطلعات تلك المرحلة بتغييرات يجد المرء فيها ذاته وهويته.
في ذلك الحين، كان البعض يرفض مقاومة الشر بالعنف، وآخرون كانوا من يأسهم يبشرون بالعذاب الإسرائيلي الأبدي. فيما فئة تَكِلُ الخلاص إلى الدعاء. أذكر رجالاً في قريتنا كان عندهم حمل السلاح في وجه القوات الإسرائيلية الغازية موضوعاً للسخرية، وللنكات الهازلة. الجهل والخوف صنوان يعزز أحدهما الآخر، ولا يترك للمرء أن يفكر بعمق أو يفهم ما حدث وما يوشك أن يحدث في الأفق البعيد. وهنا تظهر قيادات سياسية، بموروثها الضحل عن الإسلام، تجلس في العادة في الصفوف الأولى عند إحياء مناسبة عاشوراء لغايات تتعلق بالوجاهة الاجتماعية، لتقنع الناس بلا جدوى المقاومة، وأنّ الزمن هو زمن الواقعية السياسية لا زمن معاجز الأنبياء، متخففة من الإدراك الثوري للدين، ومفسّرة إيّاه على أنّه فقط أداء العبادات، العبادات الظاهرية. وكان هناك من “المتأولين” على قلّتهم، مَن يساعد هذه القيادات على إنجاز عملها المخدّر والمفسد. لكن أغلب الشيعة كان لهم فهم أخلاقي حياتي ثوري معاكس. ورغم كل العوائق التي وضعتها في طريقهم الدولة وبعض القيادات التقليدية، تجاوزوا في شخص أفضل ممثليهم، هذه الدرجة الغريبة من الفهم التي دفعت الشيعة في مراحل مختلفة إلى تلك الظلمة، في وقت، ناضل علماؤهم ورجالاتهم المخلصون العقلانيون للخروج منها نهائياً وإلى الأبد.
ad
بالنسبة إلى جيلي، نعم، كنّا أمام مقاومة من نوع مختلف. لا يوجد في داخلها متطفّلون ولا زائفون. مؤمنة بمجابهة الشر بكل الوسائل العادلة، وتريد تحقيق مشيئة الله في أوسع دائرة ممكنة.
ارتباطها الديني، لم يكن فائضاً عن الحاجة بل كان حياة لها وانقاذاً لمن حولها. الدين أستاذ فذّ، يُعلّم أتباعه الطريق المؤدية إلى الحكمة والكرامة والمجد. والتزامها بنهج ولاية الفقيه (الذي يسميه البعض عندنا بالولاء الإيراني) لم يكن يناقض التعاليم الوطنية بل كان جزءًا من المعقولية الإسلامية التي تحثّ المسلمين أينما كانوا على التعاون لمواجهة أعداء الله والإنسان، في وقت يرفض قسم من “المواطنين اللبنانيين” الدفاع عن بلدهم وتحمل أعباء ومخاطر قتال الأعداء.
ربما يطرح هنا السؤال التالي، إذا كان قائمة الاعتداءات الإسرائيلية طويلة لا آخر لها، فكيف إذاً، يجب أن يتصرف فرد شيعي، يعرف بأنّ إسرائيل لا تتوافق مع دينه ووطنه، وتحتل أرضه وتدمر منزله وتحرق حقله وتقتل أطفاله وعائلته، وحين لا تعير حكومته أي أهمية لوجوده وحياته وأمنه، أو تلاحقه حين بحثه عن وسيلة لردع الشر؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال الحيوي له أهمية خاصة في اكتشاف المعنى المقصود من الوطنية.
هناك من يرى أنّ مسؤولية مقاومة الشر هي مسؤولية الدولة ولا يحق لأي فرد أن يقاوم الشر بمعزلها. الرؤساء هم الذين يقررون ما هو حسن وما هو سيء لرعاياهم، وأنّ على الرعايا الطاعة فحسب. لكن هذا غير صحيح، خصوصاً في ظل دولة منزوعة الخيار والسيادة والقرار. لا يمكن للإنسان أن يتنصل من مسؤوليته وهو يعي أنّ لبنان وإسرائيل لا يجتمعان. وهو يدرك أنّ خذلان الدولة لا يعني أن لا واجب كبيراً على كاهله. فعلى إخلاصه لوطنه ودينه يتوقف مصير السلام والحرية والنصر.
عندما اعتبر الفرد الشيعي المقاوم أنّه لا يمكن طاعة مَن لا يمثّلونه في السلطة، وأنّ ما من حدّ للمقاومة والنضال والعمل في سبيل الوطن سوى الذي يحدده الدين الأصيل والحق الواضح عبر ممثليه الشرعيين الصادقين، بدأت السلطة بمكوناتها الطائفية والسياسية المختلفة تشعر بالسخط تجاه واقع إذا ما تمدد سيؤدي إلى خرق في التوازنات والمعادلات. وهذا ما حصل بعد أكثر من ثلاثين سنة من المقاومة، حيث انتقل الشيعة عبرها، إلى منزلة أعلى أو ربما فوق منزلة بعض الطوائف، وتحديداً المسيحية منها، لتدخل بعدها المقارنات التشويشيّة أو الخطابات الغريزية التي تتعاضد معها اعتقادات خرافية بحيث تتحول الطائفة الشيعية بهويتها ودورها إلى نقيض للطوائف الأخرى، وأحياناً لمجرد فهم خاطئ لموقف أو عبارة أو صورة أو طقس ديني أو حشد جماهيري. وبناء عليه، وجد بعض أرهاط السياسة أنّ المسألة مع الشيعة ليست من قبيل تفوق داخل النوع، بل هي تجاوز للنوع، وأنّ التقسيم هو الحل، ولو كان هذا الحل يتشبع منذ نشأته بالجهل الفلسفي والأيديولوجي.
الحماسة الثورية التي انقذت الشيعة من الاحتلال والهوان والحرمان لم تكن مطمئنة للطوائف الأخرى، خصوصاً أنها نقلتهم من موقع إلى آخر، شركاء في السلطة ومؤثرين فيها بعدما كانوا على هامشها.
هذا التبدّل في الرتب، المبالغ في غلوّه أحياناً، إضافة إلى ضياع الثقة بالنفس، هو الذي التي أخذ بناصية المسيحيين هذه الأيام إلى نواحٍ متباعدة ومصائر متناقضة، وإلى تمسك البعض فيهم وإصراره غير المعقول على إنشاءٍ جديدٍ للجغرافيا والسياسة غير تلك التي قامت على أنقاض انتصارات الشيعة، ما يسلب العلاقة توازنها ويسطّح غاياتها، ويترك المشاعر السلبية تمتد أغصانها في كل اتجاه.
وهنا يأتي السؤال حول هذه الخوف، فهل هو نتاج نوع من التصادم بين الحقائق والأوهام؟ بين التاريخ والمستقبل؟ أم هو وسيلة لحماية النفس واستكمال ما تبقى من مطالب؟ قضية الخوف، لا سبيل لها غير البقاء إن لم يسمح المسيحيون بنشوء حوار صادق بين الوقائع والشكوك، وبين المسؤولية والأقدار، وبين قواعد العلم الوطني وضوابطه من جهة وقواعد الحساب الطائفي ومنافعه من جهة أخرى، وبين الأخطاء الذاتية التي أحدثت انفلاقاً في بنيان الطائفة، وبين أولويات ومتطلبات يستحيل إنكار عناصرها الوطنية؟
ما نحاوله فيما تبقى من سطور هو استكشاف الدوافع العميقة، للخوف، الذي يظهر بمنتهى الوضوح من خلال القضايا التالية: السلاح، الدور الإقليمي، المال، الأيديولوجيا، القيادة. وإن كان بعض التداعيات حول هذه القضايا فادحاً، ما يجعل بعض الطوائف وتحديداً الطائفة المسيحية متوجسة من حقائقها، فإننا ببعض الإجابات نفترض أن نسد ثغرة تطل منها تلك الأوهام والاتهامات.
أولاً: السلاح.
السلاح النوعي، وليس السلاح الفردي الموجود لدى معظم اللبنانيين، هو ما يجعل كل أبعاد الخوف لدى المسيحيين، سائغة. أن يحوز حزب أو طائفة على هذه الكمية الهائلة من السلاح، باعتراف قيادة الحزب نفسها، سيلتهم بنظرهم، الدولة والحياة. فليس مهمّاً ما إذا كان هذا السلاح يؤدي وظيفة وطنية أو أخلاقية، وحتى لو كان مَن يحمل السلاح منضبط في استخدامه له، ولا يمارس عبره تهديداً وضغطاً وإكراهاً، فهذا لا ينفي ما يسببه السلاح نفسه من ارتياب، وما يُتيحه من رغبة لتسلّح مقابل، ولا يهمّ إن لم يكن حامله عدواً، ولكنه يزيد المجرد منه حذراً وخشية. ولا يكفي شرعيته وأنّ بفضله تحررت الأرض وغُلبت به جحافل التكفيريين الذين أرادوا بالنصارى سوءاً ليحظى ببالغ التقدير، فطالما هو ليس في متناول المسيحيين، فإنّه لن يجد البيئة التي تقبل به وتثق بمن يقتنيه، وطالما ليس حكراً بيد السلطة الرسمية، فسيبقى يقضّ مضجع المسيحيين بين الحين والآخر ويهدد التوازن والسلم الأهلي.
وفي الجواب على هذه المخاوف، يجب أن نفهم معنى الوطنية، فهذا يتيح الإقلاع عن كثير من السرديات والخطابات المستنسخة. إنّ” الوطنية” إذا فُصِلت عن أفقها النضالي وعن مناقبية الواجب وعن عناصرها التاريخية والثقافية لن تنتج سوى مجموعة من الشعارات المحنّطة المعرّضة للتهافت، وكأنّه يكفي لتنظيف الأرض رفع العيون إلى السماء. إنّ أي تحليل يُقصد فيه محاكاة أوضاع بلدان مركزيّة قوية المظهر والبنيان والنفوذ والسيادة ببلدنا، هو تجنٍ على الوقائع، وهو جعل أمورنا اليومية غير مفهومة بقلب الحقيقة على وجهها. ثم إنّ المجتمع الطائفي الذي امتصّ دولتنا وصادر إرادتها وجمّد صلاحياتها هو الذي يلام على تقاعسه في الدفاع عن الوطن، وهو الذي ينبغي أن يشكك بهويته الوطنية وانتمائه الديني لصرف نظره عن واجب وطني وأخلاقي. أما اختيار تنحية الوقائع التاريخية وما سببته (إسرائيل) لشعبنا بفمٍ مطبق، ليست حيلة حاذقة على الإطلاق.
إنّ المخاوف الطائفية لا تشوّه وظيفة السلاح ونبل وشرعية استخدامه، بقدر ما تعيّن بوضوح ضمور المندّدين به وطنياً، وتناقضاتهم الظاهرية، انفعالية كانت أم نظرية، والتي لا يرجى منها أي حل.
إنّ السلاح لا يخيف إلا إذا كان حامله يريد أن يدعم نفوذه على حساب نفوذ الآخرين في الوطن، ويوسّع فرصته على حساب فرص الآخرين، أو يؤدي بدوره إلى نوع من الفساد والغلبة الطائفية والسياسية، وهذا غير موجود البتة إلا لدى من ضاقت صدورهم من الحقيقة والحق معاً!
ثانياً: الدور الإقليمي.
كيف لحزب لبناني أن يكون له حضور خارجي في الميدان العسكري؟ مرة أخرى لا يمكن للمسيحيين أن ينظروا إلى هذا الأمر إلا بمشاعر التوجس ومواقف الاعتراض. إنّ المشروع هو عين المشروع. فحزب الله بعد أن سيطر على البلد، ها هو يدعم نظاماً يمنع عن شعبه الديمقراطية والحرية!
والجواب، الترويج لفرية أخرى بأنّ حزب الله عدو الحرية والديمقراطية ويقتل شعباً لا يجد أهله القوت وشربة الماء، تنطلق من غرفة عمليات تديرها دول عظمى استأجرت عصابات الإرهاب لتخرّب وتنسف وتقتل وتحرق تحت راية الإسلام (الله أكبر).
عندما اجتاحت القوى التكفيرية المتشددة في مدى بضعة أشهر سوريا والعراق وتركتها شبه بلقع، كان لبنان في ظروف البقاء واللابقاء. كالعادة كان الهدف إمّا إشعال حرب أهلية يتفتت معها الكيان، أو أن يُسلّم لبنان كإمارة (داعشية) ضمن مشروع (الشرق الأوسط الجديد). الذين زرعوا إسرائيل في منطقتنا، هم نفس الذين دمروا العراق، وهم نفس الذين فتحوا على اليمن جحيماً يأكل ما تبقى من وحدته وسعادته، وسعوا لتفكيك سوريا، وهم الذين كالوا للجماعات التكفيرية المعونات وملأوا خزائنهم بالأموال. لبنان الرسمي طالب “النأي بالنفس”. تأملوا هذه السياسة العجيبة في بلد كان ينتظر القتل والإبادة والترويع والتهجير والتقسيم. مشاركة دول العالم في المؤامرة على سوريا تصبح أمراً طبيعياً ولا غبار عليه، أما انخراط حزب الله لتعطيل المشروع الذي كان يستهدف الوجود اللبناني برمته فهو من باب الدور الذي يريده حزب الله لنفسه خارج الحدود. ما هذه السذاجة؟
افتحوا أعينكم جيداً.. افتحوا عقولكم. إنّ حزب الله أذكى من أن يعطي رقبته لهؤلاء، أو يمكن أن يسمح للنار أن تتمدد ليمضي هؤلاء المجرمون بمخططهم وتآمرهم ولا يحرك ساكناً. القضية أبعد ما تكون عن دور إقليمي وإن تحقق بفعل النتائج، ولكن القضية كل القضية هي في أن تملك جسارة وكفاءة الفعل لحظة الدفاع عن المصير. مصير لبنان والمنطقة بأسرها التي لا يمكن فصل بوصة واحدة عن الأخرى. ومن اتخذ قرار الدخول إلى سوريا، أي السيد نصر الله، كان الأشجع بين كل اللبنانيين رأياً، وأدقهم بصراً، وأعمقهم إيماناً بحقوق وطنه، وأعلمهم فهماً في تاريخ الجماعات التكفيرية وأهوالها العظيمة. فاتخذ القرار لا لدور خارج الحدود وإنما لحماية من هم داخل الحدود، واستجابة لدواعي وضرورات أمن مكشوف ومعرّض للانهيار.
ثالثاً: المال.
في مستهل رواية “نوار اللوز” لـ واسيني الأعرج، كتب، “اليوم، كل شيء تلاشى إلا أنتم. فقد بقيتم واقفين كشجرة خروب في وجه اليأس”. هكذا هو لبنان وهكذا هم المسيحيون على وجه الخصوص، تشققت أرضهم التي ضربتها زلازل الانهيار الاقتصادي، وسقط عامودهم المالي (المصارف). فيما حزب الله (شجرة الخروب) ينعم بتمويل خارجي كبير، وبمؤسسةٍ (القرض الحسن) في حوزتها ملايين الدولارات تتوسع فروعها كل يوم. أليس في ذلك مدعاة للخوف؟
وفي الجواب، إنّ عدم فهم الدين الإسلامي في معناه الحق، البسيط والمباشر، حيث مبدأ الزكاة والصدقات والتكافل، سيسبب نقل الفهم الباطل لهذا القضية وبالتالي عدم فهمها إلا من زاوية أنّ دولة تموّل منظمة عسكرية وحزباً سياسياً. وبالمقابل، فإننا لو حملنا قضية التمويل على جهات وقوى لبنانية أخرى، فإنّها لن تكون مدعاة استغراب أو استنكار. مع العلم أنّ لا جهة سياسية لبنانية، إلا ما ندر، لا تتلقى تمويلاً من الخارج. إنّ من ينددون بمال حزب الله الخارجي لا يتورعون عن قبوله حتى من كيان العدو، استتباعاً وتخادماً لما يضر ببلدنا أشد الأضرار. وها هي شهادات الكونغرس، حول تمويل واشنطن لأتباعها خلال الانتخابات النيابية، لا تزال حيّة. ولكن عندما ينظر المرء من زاويته وبألوانه هو، سيجد ما هو مذموم هناك محمود هنا. والحق، ليست المفارقة في التمويل الخارجي، وإن بدت مع الانهيار المالي وفقدان كثيرين لأصولهم النقدية أو انحسار التدفقات والعطاءات من الخارج بسبب سوء الاستخدام أو ضعف النتائج المتوقعة من وراء نشاطهم، كبيرة، وإنما بنجاح حزب الله في جعل المال الذي يحصل عليه في خدمة شعبه ووطنه تحريراً للأرض ومنعاً للفتن وتفشيلاً لمخططات الحرب الأهلية وكذلك في دعم كل محروم ومحتاج لأي طائفة انتمى. إنّ مؤسسة القرض الحسن ليست مؤسسة مصرفية استثمارية ولكنها حافظت على أموال المودعين فيها وقدمت قروضاً لآلاف المواطنين من مختلف المناطق لتساهم في حل مشاكلهم، فيما المصارف المملوكة لجهات سياسية وطائفية سرقت أموال مودعيها وتسببت لهم بأفدح الخسائر. أما الخوف من انتقال القدرة الاقتصادية من طائفة إلى طائفة. فلم يكن يوماً هدفاً للشيعة أو لحزب عندهم، وإنما الهمّ الأول، من أي نشاط اقتصادي واجتماعي، هو تقليل الفقر وتكثير التنمية، لا المنافسة في الغنى. هنا القيمة المضافة للشيعة ولدى حزب الله تحديداً، في تحقيق المنفعة لا في تجميع الثروة. ولا نقول أكثر من هذا.. فالحقيقة واضحة كضوء النهار.
رابعاً: الأيديولوجيا.
تبدو الأيدولوجيا الشيعية محاولة للخروج عن القواعد الوطنية في العيش، قبل أن نسأل كـ(مسيحيين) عن مضمون القواعد نفسها وما إذا كان المؤدى منها يتلاءم مع روح العصر أم لا؟
وفي الجواب: شعور المسيحيين بالخوف من مجموعة العقائد والأفكار الشيعية التي تظهر على صورة خطابات ونصوصاً أو تتجلى عبر سلسلة من الاحتفاليات والشعائر هو لا شك من نتائج النهوض الشيعي العام على مستوى المنطقة والعالم، ولكن هذا كله يتوضح وينكشف بروح الحق. أمّا إذا كان البعض يملك قناعة راسخة مسبقة عن نفيها لكل أشكال العمران الوطني وشتى أشكال ضروراتها، فعندها ليس بمقدورنا توضيح حتى أكثر الأشياء حكمة لا هذه فقط.
الأيدولوجيا الشيعية قدّمت قدوة التكامل الإنساني والحق والمحبة في شخص النبي محمد (ص) وعترة أهل بيته.
الخوف من أنّ هذه الأيديولوجيا تتجاوز العيش الوطني والوفاق الديني سواء كان التعبير عنها ينطلق من الماضي أو من تضخم الأنا وتعاظم القوة، مجرد وهم ولكنه يريح من سؤال مزعج بشكل آخر: ماذا عن أيديولوجية هذه الطائفة وتلك؟ وماذا عن أيديولوجية هذا الحزب وذاك؟ أليس في طقوسهم وحروبهم وثقافاتهم خروج عن القواعد الوطنية والدينية والإنسانية. وإذا كان البعض يبحث فعلاً عن أسس الاستمرار على وحي الوفاق الوطني، فإنّ في الأيدولوجيا الشيعية كل مسوغات الانتقال من المواطنية الأدنى إلى المواطنية الأعلى، وفيها ما فيها من الخروج من المحابس الطائفية إلى الآفاق الوطنية والإنسانية، ولكن الأمر يتطلب التقليل من معزوفة النوعية والأكثرية والمتقدمين والمتخلفين! . وربما يُستحسن العودة إلى بعض مراجع وعلماء الشيعة المعاصرين ولا سيما الأمين العام لحزب الله الذي قال في أحد خطاباته: “لبنان بشكله الحاليّ وجغرافيته وتعدّديته هو الوطن النهائي لجميع أبنائه، ولا نريد فيه أن نكون الحزب القائد ولا الطائفة القائدة، وإنما شريك كامل متكامل في الحقوق والواجبات، لا أكثر ولا أقل”.
خامساً: القيادة.
في الوقت الذي تفتقر فيه الساحة المسيحية إلى قيادة تاريخية، ينعم الشيعة بقيادة شجاعة ورؤيوية. هذا الأمر يضاعف من المخاوف إذا ما اتصلت أهداف هذه القيادة بقضايا وطموحات كبرى. ومعنى ذلك أن الوزن الإجمالي للمسيحيين في إدارة البلد ستنخفض، لصالح الشيعة وقيادتهم.
وفي الجواب، ليس الشيعة مسؤولين عن التدهور الحاصل على مستوى القيادة المسيحية، والأداء الكفء لقيادتهم، ونقصد بها تحديداً قيادة الأمين العام لحزب الله لا يمكن وضعها في إطار التخويف، بل ولا يمكن القول إنّ دور حزب الله هو على حساب الدور المسيحي. صحيح، أنّ السيد نصر الله قام بإسهام جوهري بتحرير وتظهير الإمكانات الشيعية التي تمتد إلى ما وراء الواقع اللبناني، لكنّها في إطار حماية الوطن والمنطقة من حركة العدوان الغربي، وليست موجّهة ضد المسيحيين ولا تتعمد تحجيمهم ولا احتواءهم. وصحيح أنّ السيد نصر الله يقود المقاومة إلى خيارات كبرى ولكن هذه الخيارات تفتح جميع الأبواب المغلقة أمام حياة كريمة لجميع شعوب المنطقة ولجميع المكونات اللبنانية. إنّ هدف قيادة السيد نصر الله تكوين علاقات تتصف بالقوة في مواجهة العدو، والحب تجاه أبناء الطوائف الأخرى. إنّ في خطاباته عن المسيحيين والتي من خلالها يسعى إلى طمأنتهم لموقعهم ووجودهم ودورهم لا تعكس إلا صدقه ونبله وإيمانه الشديد بصداقات ودودة وإيجابية. إنّه يمكن الخوف من قيادة مخادعة وشريرة ومتربصة ولها سوابق في الشر، ولكن أي معارض مسيحي لن يفلح بإيجاد أي فعل للسيد نصر الله فيه انتقاص أو انتهاك لحق مسيحي. بدل التخويف الذي يصرّ البعض على تفعيله في المخيلة المسيحية، فإنّ الأفضل هو البحث عن طريقة للشراكة الإيجابية. ولكن، أحياناً بمجرد أن يعلم (هذا البعض) بأنّ العلاقة مع الشريك يمكن أن تكون سعيدة وناجحة يضع معايير لنفسه تجعله يختار القطيعة ويستنكف عن المساعدة في بناء شراكة مستقرة. إنّ لدى السيد نصر الله من الاستقامة ما ينطبق عليه ما قاله المعري بحق السيد المرتضى:
يا سائلي عنه لما جئت أسأله \ ألا هو الرجل العاري من العار\ لو جئته لرأيت الناس في رجل \ والدهر في ساعة والأرض في دار. مواهبه الفريدة التي خلقت منه شخصية متعددة الجوانب مكتملة النبوغ، حيث كان بين السياسيين أنبههم، وبين الخطباء أفصحهم، وبين العسكريين أذكاهم، وبين المصلحين أنشطهم، وبين المحاورين أكثرهم جاذبية وأشدهم إقناعاً، ومع ذلك، فهو لم يطرح نفسه لفئة دون أخرى، بل وضع نفسه في خدمة كل الناس، وهل ثمة سعادة حقيقية أجمل من خدمة الناس؟ . هذا الإنسان الفريد الذي كرّس حياته للإنسان يؤمن أنّ كلمة الله العليا لن تتحقق إلا بالإيمان والحرية والعدالة الاجتماعية.
ومهما يكن من أمر هذا الوهم الذي يستحضره البعض من دون أساس مادي، فإنّ السيد نصر الله أقام من حياته معبراً يرأب صدع الأوطان والإنسان. غيرته على المسيحيين كغيرته على المسلمين، وعلى اللبنانيين كغيرته على الفلسطينيين والسوريين والعراقيين واليمنيين … يفيض بسخائه وعطائه، ومن خلال قيادته المؤمنة بروح الإنسان التي تمثل لبّ فلسفته وطريقته في تبديد الظلام، صار هو بذاته أفق هذا الشرق ومحوّل مجرى تاريخه فمن يقبله ينعم بنعمته، ومن يرفضه فوا أسفاه على نعمة تنزلق من أيدٍ غير جديرة بها!
بكلمة موجزة، الوهم الطائفي لا يمكن إلقاء تبعته على الآخر، لأنّ الآخر ناجح أو قوي. كل حقبة سياسية يحوزها مَن يستحقها. ولن يتم دفع المشكلة مقدار إصبع إلى الأمام طالما أنّ النظرية التاريخية حول لبنان والوجود المسيحي ما زالت على حالها من التيبّس، وبعيدة عن إدراك العالم السياسي الذي يضج بالتحولات. الصعوبات التي يعيشها المسيحيون لا يمكن حلها من دون مساءلة الذات عن أخطائها، ولا يمكن تجاوز الطالع السيء بمزيد من التطيّر أو بالتعلق الأعمى بالحماية الخارجية أو التمسك بالمشاريع التقسيمية لأنها ارتداد تكراري لما هو خرافي وخادع.
ينقل الرواة قصة قرية كان يروعها تنين مخيف يسكن أحد الكهوف القريبة منها . ثم تقدم شاب بطل من أبناء القرية ذات يوم فقتل التنين وطلب إلى أهل القرية أن يخرجوا من مخابئهم. ولكنهم ترددوا ثم قالوا له: إنك قتلت التنين ومعنى هذا أنك أقوى منه وإذن، فحق علينا أن نخاف منك أكثر مما كنا نخاف من التنين. وصاح الشاب في وجههم: إن التنين يسكن في قلوبكم .. إن الخوف داخلكم، وكان هناك دائماً ولم يكن في التنين”!