سهرة مع “يوسف”../ أحمدفال امحمد آبه
أرقت ذات ليلة وجفاني النوم، على غير العادة.. بعد ساعات من التململ في السرير قررت النهوض من الفراش ، والخروج إلى الشارع لعلي أجد على السهر معينا.. نظرت إلى الساعة فإذا بها تشير إلى الثانية ليلا ، فهممت بالعودة إلى البيت والخلود للراحة، ف”مطاردة” النوم أكثر أمنا و أقل تكلفة من التسكع في شوارع نواكشوط دون هدف ، خصوصا أن الخروج في هذا الوقت من الليل ليس مأمون العواقب، بعد انتشار عمليات السطو على الآمنين في بيوتهم ، وكثرة الجرائم في المدينة العشوائية.. لكنني تجلدت و مضيت في طريقي..كان صاحب الدكان القريب منا لا يزال مستيقظا ، ومعه فتية يلعبون الورق ، وقد شجعني ذلك على السير في الشارع، لكنني لم أجرؤ على الابتعاد كثيرا.. اكتفيت باستنشاق قليل من الهواء الملوث برائحة “السمك المتعفن”، وهي الرائحة الأكثر انتشارا في نواكشوط خلال فصل الخريف، وعدت أدراجي.. وقبل أن أدخل إلى المنزل خطرت ببالي فكرة جنونية ، أو هكذا توقعت أن تكون، وهي أن أذهب إلى “تنويش” أو “شارع عزيز” لقضاء بعض الوقت على تلك “الأعلاب” النظيفة ، وأخلو هناك بنفسي قليلا.. ركبت سيارتي ، ومضيت.. كانت الشوارع شبه خالية، إلا من بعض الحمير التي أنهكها العمل في النهار، وبعض الكلاب الضالة .. و سيارات فارهة تمر بين الحين والآخر في اتجاهات مختلفة.. كان الطريق موحشا ومخيفا، فانواكشوط بعد الثانية عشرة منتصف الليل تتحول إلى أطلال هادئة.. مقفرة.. ويزيدها ضعف التيار الكهربائي، إن لم تتكرم “شومك” بقطعه عن السكان، غربة ، وبعدا عن الحضارة.وصلت إلى مكان تخيلته بعيدا عن العمران، لكنه قريب من شرطة “سورتي” على طريق الأمل.. تخيرت مكانا أراهم منه ولا يروني ، ثم ألقيت السجادة على الأرض ونزلت عليها بكامل ثقلي .. كانت السماء مرصعة بالنجوم، وبدت لي بعيدة من الأرض، وكان القمر ينسحب في هدوء نحو الغرب معلنا انتهاء رحلته اليومية.. ونسيم عليل يداعب حبات الرمل على “العلب”..أغمضت عيني قليلا أفكر في هذا العالم .. عالم موريتانيا .. ماضيه.. حاضره ، ومستقبله.. ثم فتحتهما على مفاجأة.. وأي مفاجأة.. رأيت رجلا طويلا يركب حصانا أبلق، ويقوم بحركات غريبة.. يحاول أن يخترق الأرض مرة ، و يطاول عنان السماء أخرى..قلت : بسم الله الرحمن الرحيم.. وبدأت أتلو آية الكرسي في سري، فهذا المكان يقع على تخوم مملكة الجن في نواكشوط “البطوار”، لذلك لا أستبعد أن يكون هذا أحد فرسانهم..أعدت القراءة مرتين ، لكنه كان يقترب مني أكثر ، ولم يختف كما توقعت.. إنه ليس من الجن إذن.. بادرت بسؤاله ، لأظهر له أني لست خائفا فالخوف هو المدخل الأساسي للجن إلى بني آدم: “أنت إنسي أم جني”؟ .. فقال لي بصوت غليظ أجش : “أنا يوسف”.. فقلت : “وأين أخوك”؟.. ثم أضفت : يوسف من ؟ يوسف گي، أم يوسف سيلا، أم يوسف النبي (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم)؟ لم يجب.. اقترب مني أكثر ، فارتعدت فرائصي وهالني منظره ..قلت : يوسف من ؟.. فقال : يوسف بن تاشفين..دارت بي الأرض مرتين حول نفسها قبل أن أفيق من هول الصدمة، ثم استجمعت قواي، وقلت له ساخرا: و أنا عبدالمؤمن بن علي.. فضحك وقال : أنا لا أمزح..قلت : فما جاء بك الآن ؟ كيف تمكنت من قطع كل تلك “القرون” ووصلت إلى القرن الحادي والعشرين ؟ وكيف سمحوا لك أصلا بالدخول وليس عندك جواز سفر، ولا بطاقة تعريف وطنية؟.. هل رأيت أضواء نواكشوط الخافتة وخلتها لكتيبة ستغير عليكم أم ماذا؟.. كيف اهتديت إلى هنا وأنت الذي تركت هذه الصحراء منذ عدة قرون وفضلت عليها بلاد المغرب والأندلس ؟.. أنت لست يوسف بن تاشفين، أنت جني تريد إخافتي، لكنني لا أخشاك .. فقال : بلى ، أنا هو .. كنت في زيارة إلى ابن عمي أبي بكر بن عامر في تگانت، والآن في طريقي إلى جزيرة “تيدرة” لزيارة بعض “المرابطين” هناك..انتهزت الفرصة ، وقلت له: سأسألك عدة أسئلة ، أرجو أن يتسع صدرك لها، وتجيبني عليها بكل صراحة.. ابتسم ، ثم جلس وقال : تفضل.قلت : نحن يا عزيزي نفخر بك، وبالانتساب للمرابطين ونعتبر أننا أحفادكم ، أو بعضنا على الأقل.. لكننا إلى الآن لم نتفق على نسب محدد لأجدادنا.. هل كانوا عربا من الجزيرة شطت بهم الدار، أم بربرا عزوا بالإسلام وعز بهم؟ وهذا الأمر يشغلنا ، و بسبب نقاشه ما زلنا نراوح مكاننا في هذه الصحراء المترامية الأطراف، ولم نستطع مسايرة العالم الذي تحرر من “عقدة” النسب، فأرحني بجواب أنقله عنك إلى بقية الموريتانيين ، وحبذا لو كتبته لي بخط يدك ، فذاك أقوى حجة.. وقبل أن يجيب، قلت له : لماذا سننت لنا “الانقلابات العسكرية” ؟ .. لماذا انقلبت على ابن عمك و أزحته من سدة الحكم وتزوجت امرأته ؟ وهذا بالمناسبة أحد الأدلة لدينا على أننا لكم أحفاد.. ولماذا نقلت حاضرة ملكك من هنا إلى المغرب؟ أما كان يجدر بك أن تقيم في أرض آبائك وأجدادك ، وتعمر صحراءهم ؟.. وهل حقا لم تكونوا تأكلون السمك ؟.. أجبني يا ابن تاشفين.. أجبني بالله عليك، ولا تراوغ .. التفت إلي وفي وجهه مسحة حزن، ثم قال : في عهدنا يا بني لم نكن نهتم كثيرا إلا بالانتساب إلى الإسلام، ولم يكن لدينا وقت نضيعه في التفاخر بالأحساب، ولا التنابز بالألقاب .. لقد حققنا ما يشبه المعجزة عندما انطلقنا من هذه الصحراء ونشرنا الإسلام في أصقاع بلاد السودان، ثم أنقذنا الأندلس من السقوط في قبضة الإسبان.. أنصحكم، يا بني ، أن لا تضيعوا أوقاتكم في مثل هذه الأمور ، وفكروا فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة.. وانظروا إلى العالم من حولكم، لقد تطور ووصل إلى القمر ، حسبما بلغنا ونحن في الأجداث، وأنتم ما زلتم تنبشون قبور الموتى بحثا عن أمجاد لن تنفعكم. ثم أضاف: انقل لساكنة هذه البلاد (لم يقل أحفادنا) على لساني: بماذا يفيدكم الآن أن تكونوا أحفادا لنا أو أحفادا للصحابة؟ .. إنكم تقبعون في أدنى سلم ترتيب دول العالم الثالث، وتسيرون بخطى متسارعة إلى الهاوية.. لقد مررت بانواكشوط هذا المساء ، فظظنتها مضارب “لمتونة” قبل مجيء عبدالله بن ياسين بثلاثة قرون .. إنها لا تشبه المدن في شيء، كما مررت في طريقي بما تسمونه “مدن الداخل”، ورأيت حال أهلها.. دعوا ما لا تنفعكم معرفته ولا يضركم جهله، وركزوا على الحاضر.. ثم نفض يديه عن التراب وهم بالوقوف، فقلت له : لكنك لم تجب عن بقية الأسئلة.. لماذا انقلبت على ابن عامر؟ لماذا تركتم صحراءنا ولم تخلفوا وراءكم معلما حضاريا واحدا ؟ .. فقال : “ذاك ما يعنيك”.. ثم أضاف: تذكرني قصة الأنساب في موريتانيا بقول المختار ولد حامدن رحمه الله :يفوت العمر في طلب المعــاش = = وفي رعي المعاشر فى المعاشوفى سقي العطاش من كل بير = = ثقيل عندها سـقـــــي العطــاشوفى طلب الطياش وإن طيشا = = فوات العمر فى طـلـب الطياشوأنتم تفوت أعماركم في البحث عن “العربي” فيكم و “البربري”.. “خلوا عنكم هذا واوحلوا افشي ينفعكم”.. قلت : وإنك لتعرف المختار بن حامدن وشعره ؟ قال : نعم .. إننا في عالم الأرواح نراقب ما يجري على هذه الأرض.. فقلت : لكنكم لم تهتموا بها، أقصد موريتانيا، وأنتم في عالم الأشباح، وانتقلتم عنها إلى المغرب والأندلس، فما الذي يعنيكم من أمرها الآن وليس لكم من الأمر شيء؟.. لم يجب، ثم نهض قائما، وامتطى جواده، ثم قال : نسيت أن أقول لك إنني سأرفع عليكم قضية في المحكمة .. فقلت : نعم ؟ و كيف يمكنك ذلك وقد مضت على انتقالك إلى الدار الآخرة عدة قرون ؟ .. فقال: لقد شوهتم سمعتنا في العالم عندما أطلقتم على منتخبكم الوطني اسم “المرابطون” .. لقد تركت بن ياسين و بن عامر يتعذبان في قبريهما وهما يسمعان كل سنة : المرابطون يخسرون من مالي.. والسنغال تهزم المرابطين .. و بوركينافاسو تفوز على المرابطين.. لقد تحولنا إلى “مهزلة” بسبب هذا الفريق.. ثم قال بحسرة : “ما اجبرتو شي اتسموه اعلينا ماهو هذا المنتخب الفاشل.. لا شارع ولا مطار.. ولا ميناء.. فقلت له : بلى .. لقد أنشأ ولد عبدالعزيز قصرا كبيرا سماه “المركز الدولي للمؤتمرات – المرابطون”، وهو على تخوم نواكشوط ،و يبعد ثلاثة مراحل من العمران .. فضحك، وقال : “تخوم.. ومراحل” .. ما هذه اللغة القديمة ؟ أنا أفهم لغة أهل هذا العصر أراني لك، كان عليك أن تقول : “بناه في الخلوات “.. ثم نفض يديه من التراب ، وامتطى جواده، وتوارى خلف “أعلاب تنويش”.. فأتبعته ناظري وأنا أقول: “فعلا، إن قضية الأنساب عندنا تدحس”.. تماما مثل الحكومة والمعارضة.. والتصفاگ وصوملك ، وشويريكة الماء، وجامعة نواكشوط….”#أتوف#أرشيف