الزمن …عندما كان يافعا…../ أحمد باب عبد الجليل
في سنوات صداقتي الأولي مع حارتنا لم يكن الزمن بالنسبة لي هو السائر المهرول في رحلته الأبدية مخلفا عبر عمره الطويل مسرات لأناس لا تدوم وحزنا لآخرين لا يدوم ،و ذكريات بلون الزهر الجوري حينا ، وبلون الرماد في أحيان أخر تكسوا عيون الساكنة بنور السعادة أو ظلام الحزن الدفين.
كنت أنا السائر في الزمن المقسم له المتحكم فيه. كان الزمن حينها يافعا لين العريكةوكان جميلا..- صباحي كان يبدء عندما تعلو تلاوة محمود خليل الحصري من ركن قصي من المتجر ، عندها يكون الصباح قد حل مهما كان موقف الشمس والضباب.لقد حل الصباح. بعد القرآن سيتحول مؤشر الراديو لصوت أمريكا مع اللحن المميز لنشرة الأخبار …أما الضحي فهو أثير لصوت العرب من القاهرة…-زمني بعد الضحي لا حدود له فهو خارج الدار، سباق علي مسارات المطار ورحلة نحو الوزارات…لكن فاصلا بين الصبح والضحي يكون دوما بمرور سيارة ال DS الهابطة من أقصي الغرب نزولا نحو شارع الحبيب بورقيبة يجلس خلف مقودها ذلك الرجل الفوللاني الحنطي اللون فاره الطول.
تمر ال DS وأجري خلفها لمسافةقصيرة وأكاد ألمسها وأتعجب كيف لم يجرب ذلك الرجل الأنيق ولو مرة أن يضغط علي زر الطيران لترتفع السيارة قليلا …!لا بد أنه يوقفها قرب المطار ثم يسير آلي عمله فهي يحرم عليها الوقوف أمام البنوك ، ذلك أمر مؤكد لا جدال فيه وعليه فلن تدخل CAPITAL .- عندما تهب النسمات القادمة من الغرب ، أيام لا حاجز يمنعها من أن تلمس وجوهنا وتبلل مشاعرنا ،عندها يكون وقت العصر قد حل ،عندها تعد الأفران الصغيرة لتحضير الشاي ويتحول الرجال إلي الظل الغربي للمنازل حيث يتقابل الجيران ويحلو الحديث..-ثم لا تلبث الشمس بعد الكأس الأخيرة أن تهبط رويدا رويدا خلف جدار الخزان الكبير لتقبل النوارس الخضراء تباعا لتمارس دوراتها الهوائية المتناغمة تحية للمساء القادم حثيثا..
ذلك كان زمني في دورته اليومية لا خلل فيه ولا نشاز زمن من صنعي ومن حبي ..في أصيل يوم من سنة 77 رأيت أبي مقبلا من الشمال حيث السوق العتيق ،كنت جنب البيت ومن العادة ان يمر دون النظر إلي متخطيا نحو الدار ،لكنه هذه المرة كان ينظر لي بنوع من الحنو متجها تماما نحوي ..توقف بجانبي وأخذ يدي وثبت ساعةSAMOZ علي معصمي ، بعد ذلك شرح لي كيف أجعل النابض يدور بإدارة المفتاح و ( ملئها بالريح) ، وكيف أتتبع دورات النواس الكبير لأحسب الزمن ، كانت تلك جائزة تفوق في السنة الرابعة وكانت فاصلا بين زمنين.من يومها أصبح الزمن معلقا بمعصمي ، أصبح الزمن عنيدا علي كل تأطير وتحكم ،لم يعد طيعا كما كان بل عملاقا أسير خلفه ولا أكاد أدركه …لم يعد الزمن فرحة خارجية أعيش فيهابل أصبح قيدا ثقيلا يحيط بمعصمي ويمنع النوارس الخضر أن تطير فرحا بالمساء القادم..