الاحتيال على التاريخ وصناعة التزوير.. من يمكنه أن يصحح المسار؟/ خالد شـحام
9 يوليو 2023، 14:15 مساءً
بالأمس وحتى كتابة هذه السطور كان الجيش الصهيوني قد قتل إثنين من أبطال المقاومة الفلسطينية في مدينة نابلس بعد محاصرة المبنى ونفاذ الذخيرة من المقاومين كما في كل مرة، ثم قتلوا ثالثا في قرية أم صفا شمال مدينة رام الله، وبمعية هذه الجرائم الثلاث أضيفت واحدة رابعة بتبرأة مجرم صهيوني من دم الشاب الفلسطيني إياد الحلاق الذي تم قتله ظلما وعدوانا .
تمثل مثل هذه العمليات نوعا من التعقيب على كل محاولة اقتحام واعتداء فاشلة يقوم بها جيش الاحتلال الصهيوني، وللتغطية على هذا الفشل وعدم النجاح في إنهاء او تحجيم ظاهرة المقاومة والتي كان آخرها الهجوم على جنين كان لا بد من بعض السياسات والاجراءات التي تحاول تعزيز النجاح والظهور بمظهر التمكن والسيطرة على الصعيد الإعلامي ولهذا السبب جرت تصفية بعض الفلسطينيين ودلق مجموعة من التقارير الصحافية حول مجريات الهجوم الآخير على جنين والتباهي بالتقنيات والأسلحة المحدثة والحديث حول استخدام طائرات الدرونز الأمريكية الجديدة التي اطلق عليها اسم ( عوفاز ) والتي تمكنت حسب زعمهم من تصيد المقاومين قبل الاقتحام.
من يتابع تصريحات وسياسات هذا الكيان يستمع جيدا الى مبررات دفاعية وحقوق ( وطنية ) وشعب أصيل تتم حمايته من همج ورعاع لا اصل لهم ولا فصل بوسائل وطرق مشروعة يؤيدها ويدعمها النظام الدولي العالمي بقيادة رئيس الكهنة الولايات المتحدة، ومن ينظر الى الصورة الخلفية لكل هذا الكلام لا يجد نفسه الا أمام أكبر محاولة للتزييف والكذب وتدعيم حقوق كاذبة ومزيفة ومفتراة والتغطية عليها بالقوة العسكرية والسلاح والقتل والكتم التام وليس هدا فحسب بل يمتد الأمر للعبث بمنظومات الدول العربية المجاورة وتهديدها الوجودي للتغطية على هذه الجريمة الكبرى المتمثلة في الاستيلاء على فلسطين وقتل شعبها، يسمى هذا الأمر في عرف التاريخ بإسم الاحتيال التاريخي وقد مارسته دول وأمم وحضارات كاملة عندما أقنعت نفسها بأنها الأقوى والأمثل والأفضل والأحق بالاستيلاء على العالم وامتصاص دمه وثرواته وتحليل قتل شعوبه تماما كما احتالت الولايات المتحدة على التاريخ عندما غزت مجموعة من الأوروبيين القارة الشمالية وأبادت سكانها الأصليين بالحديد والنار، وكما تعرفون فكل محاولات تزييف التاريخ باءت بالفشل الذريع والمحو والازالة .
إن التاريخ مجرد نهر من الأحداث المتشابكة التي يتشجر فيها الحدث الأول مع الاخير دون أن يتمكن أحد من السيطرة على هذا التشعب، إن التاريخ مثله مثل النهر الطبيعي في جريانه، تدفق لا يمكن السيطرة على مجراه ولا على تأويل تغيراته مهما حاولنا العبث به أو الضحك عليه بالتحريف أو التغيير أو نقله الى موضع آخر، إنه لا يجامل ولا يهمه أن تحب أو تكره، إنه يبدو عشوائيا وغير خاضع لقواعد أو ثوابت لكن من يفهمه يدرك بأنه جسم فلسفي له قوانينه ومتعلقاته التي لا يحيد عنها في دورات كبيرة تتكرر كل بضع قرون بنفس المجريات وبنفس السياقات.
ما يحدث في فلسطين وحالة التردي العربي المحيطة بها تتجاوز تحليلا سياسيا أو اقتصاديا، هنالك تفسيرات عديدة من وجهات نظر فلسفية وسياسية وايديولوجية يمكنها أن تحاكم الواقع وتقرر التحليل والمآل النهائي الذي تصير إليه الأمور، التاريخ يتمتع دوما بوجهة النظر الحاسمة خاصة عندما يتضافر ويتحد مع فلسفة هذا الكون وقوانينه الصارمة المموهة باتقان والتي عادة ما يرفض الطغاة التسليم بها وبحتمية وقوعها، يقول هذا العجوز بأننا نعيش المرحلة المزورة من التاريخ العربي أو الشوط الذي يغشاه الزيف وتركيب الأقنعة ومحاولة الضحك على السنن الطبيعية المشرعة لهذه الحياة وهذه الدورات الحضارية، نحن نعيش مرحلة الزيف لأنه وبكل بساطة لا شيء صحيح ولا شيء في موضعه، لا يوجد شيء يمكنه أن يمنح هذا القسط من التاريخ العربي المغفرة أو علامة النجاح أو الاجتياز لأن الحكم العربي تفشى فيه طاعون أسود اسمه الوهن والخذلان والجبن ولم تسجل محاولة واحدة في السنوات الأقرب لعمل إنقاذي أو انقلابي صحي او محاولة استشفاء من الفيروس الاسرائيلي الذي أحكم قبضته جيدا على ظاهرة الحضور العربي .
ما يحدث الان في فلسطين وممارسة الإصرار على القتل ليس سلوكا محصورا بأفراد متشددين دينيا أو هواة للعبة الدم بل هو استحقاقات واقعية ناجمة عن تزوير التاريخ وتزوير المرحلة وقطاف حتمي لزراعة التزوير في اذهان الأجيال وذهنية المعركة التي لا يمكنها أن تتقبل التزييف أو تتقبل جمهوره، ما يحدث الان في هذا العالم بأكمله هو محاولة تزييف للحقائق الثابتة وتزييف لمعاني الوجود واستنتاجات التاريخ حول الحقائق والأحداث، ما تقوم به دولة الكيان ومثلها ربها الأكبر من محاولات حثيثة للتحريف وصناعة نتائج مزورة مصنوعة من الرماد السهل التفتت هو الطمس والتحوير والكتم من خلال القتل، كل عمليات القتل واباحة الدماء التي يمارسها العدو تهدف الى خنق وكتم وتحييد الأصوات والظواهر المطالبة بإحقاق وارجاع الحقائق التاريخية الصحيحة الى مكانها وموضعها الصحيح من الإشهار، لذلك يكون القتل وأعمال التصفية والاغتيال أسرع وأضمن وسيلة في النظم الطاغية لترسيخ التزوير وجعله هو الحقيقة تماما كما تفعل الأنظمة الأمنية التي توغلت في حياة الشعوب العربية ومارست نفس أفعال المرجعية الصهيونية والأمريكية لكتم المحاولات الصغيرة والكبيرة لعملية التصحيح .
وكما أن هنالك تزييفا حاضرا بقوة للتاريخ والعبث بقواه العقلية فمن عجائب هذا الكون أن الخالق وضع فيه مبررات التصحيح الذاتي أو عوامل إعادة الاتزان لكي لا يفقد التاريخ عقله ووعيه، هنالك مصححات طبيعية يتم طرحها بفعل صناعي أو تلقائي لتساهم في هذه الظاهرة وتحاول موازنة الاختلال القسري الذي يدفع به الطغاة للاحتيال على التاريخ وتحويره الى كيان محكوم بين أيديهم كما فعل كل الطغاة وكل الأمم السابقة والمارقة التي حاولت الضحك على هذا الحكيم بالقوة الناعمة أو القوة الفاتكة، في التفسير غير السياسي والمنتمي إلى المنطقة الفلسفية من اللاوعي فالمقاومة الفلسطينية هي مصحح تلقائي للتاريخ ومصحح تلقائي للعورة الكبيرة من التزوير التي يصنعها الحكم العربي المتحالف تلقائيا مع اعداء الأمة ضد هذه المقاومة، الصراع الذي تخوضه روسيا الان بغض النظر عن رأينا أو رؤيتنا فهو جزء من مهمة مصححات التزوير كما ستفعل الصين في الفترة القادمة من الزمن، ما يحدث في فرنسا من اضطرابات مؤهلة لتتمدد في العالم كله هو جزء من محاولات تتململ لتصحيح التاريخ كما كل الثورات التي عالجها الزمان واحتلت مكانها في مثل هذه الحركات، في تاريخنا القريب قد يكون صدام حسين أو عبد الناصر نموذجين لمحاولات التصحيح العربي بذلا حياتهما ثمنا للوقوف ضد تزوير التاريخ عندما وقفا ضد الصهيونية والامبريالية تماما كما حصل مع فيدل كاسترو وهوغو تشافيز وغيرهم في التاريخ الأقرب وربما حتى مع بعض رؤساء الولايات المتحدة الذي حاولوا الصحو والانتباه الى الانحراف في مسار التاريخ لذلك دفعوا حياتهم ثمنا لهذا الصحو داخل المنظومة .
في التاريخ المزور تنقلب خصائص القوة تلقائيا دون ان يشعر الطغاة، فكلما تضاعفت جرعات القوة والجبروت والضربات الشديدة المستخدمة لممارسة التزوير يصبح تأثيرها هزيلا وفاترا وكأن نمطا من المناعة والتكيف ينشأ ومقابل ذلك تصبح ضربات التصحيح ومحاولات التضاد أشد تأثيرا وقوة مهما كان حجمها صغيرا، لهذا السبب نجد أن ضربات العدو الصهيوني في قلب المدن الفلسطينية يكاد يكون تأثيرها صفريا على معنويات وسلوكيات الشعب الفلسطيني بل على العكس تعمل هذه الضربات على تصليب وتحصين المقاومة وتزيدها اصرارا وترسيخا لفكرة القوة وتصبح ضربات هذا الفريق أشد ألما وابعد تأثيرها مع انها تحدث بأدوات وتجهيزات بسيطة وسخيفة مقارنة بتجهيزات وتسليحات العدو، نفس السيناريو يحدث مع ضربات الولايات المتحدة التي تتميز بالضخامة والتهويل والكلف الهائلة لكن محركات صغيرة تقود إلى إحباطها .
المرحلة العربية المعاصرة بحكامها وشعوبها في أزمة حقيقية لأنها أولا أضحت جزءا من منتجات التزوير في زمانها، وثانيا لأنها عاجزة عن فعل شيء لمحاولة تصحيح التاريخ مع إدراكها التام لحقيقة ما يجب القيام به، السكوت عن هذه الواجبات حيال المآسي التي تعصف بعوالم العرب بل والمساهمة في صناعة ما يخدم غايات واهداف الأعداء لهذه الأمة في فلسطين والسودان والعراق وليبيا واليمن ولبنان وسوريا وكل دولة أخرى إنما هو مشاركة في صناعة التاريخ المزور، وبوجود الجريمة الشاملة تصبح أشياء كثيرة مزورة حتى لو كان بعضها واقعا وملموسا وبعضها الآخر غائب ومغيب، فالنعيم الذي تعيشه بعض الدول العربية هو جزء من التاريخ المزور، والشقاء الذي تعيشه فلسطين ولبنان واليمن هو تاريخ مزور، الحرب في السودان هي جزء من حقائق التزوير والزيف، الجمود الذي تعيشه بغداد والقاهرة ودمشق عن الاطلاع بدورها الكبير هو جزء من زيف هذا الزمان .
إن دولة الكيان ليست إلا قطعة كبيرة من التاريخ المزيف ماديا ومعنويا بمعية كل المرحلة التي نعاصرها، هذا التاريخ المزيف حولها إلى بنك تمت صناعته كواحد من مخرجات الرأسمالية الغربية المتوحشة، ولكنه بنك الدم الفلسطيني الذي تستثمر فيه اطراف عديدة أكثر مما يتبدى لكم جميعا، إنه بنك الاستثمار في قتل الفلسطينيين والامعان في اذلالهم ومصادرة حياتهم وأراضيهم ومستقبلهم لأن هذا الاستثمار يحمي قائمة طويلة من نماذج الحكم المزيف ويغطي عوراتها ويمنح اتفاقياتها المباركة اللازمة، حمام الدم الفلسطيني لا يجب أن يتوقف لأن في ذلك حرج لعدد كبير من القوائم والاسماء ومدعاة لبقاء وجوه ومسميات تعتاش وتنمو باستمرار تدفق هذا الدم، إن التاريخ المزور لا يصنع الا مهرجين أو مجرمين أو مزيجا من الاثنين بصحبة عدد هائل من الضحايا .
هل يمكن لطائرات ناعوز أن تغير مجرى التاريخ ؟ الجواب هو لا لأنها طائرات من ورق أمام عزيمة وصمود المقاوم الفلسطيني، هل يمكن لدعم الولايات المتحدة وزعيمها أن يغير من نتيجة هذا الصراع ؟ الجواب هو لا لأن من يكتب النتائج هو الشعب المناضل وليس المعتدي، هل يمكن لاستمرار نهج القتل أن يدجن الشعب الفلسطيني ويرعب الأجيال الجديدة ؟ الجواب هو لا لأن هنالك علاقة طردية بين جرائم الاحتلال وعزيمة الشباب الفلسطيني فكلما زاد القتل تكاثر الفدائيون وأخصبت الأرض مزيدا منهم، هل يمكن لبعض المارقين مثل المجرم نتانياهو وصديقيه بن زفير وسموئيل الأشقر بسياساتهم الدموية أن يحدثوا فارقا في نهاية ومصير الدولة العبرية ؟ الجواب هو نعم لأنهم سيكونون سببا في سرعة النهاية واستعجال الأجل .