آراءموضوعات رئيسية
ماذا يفعل كيسنجر في الصين.. وما الذي دفع اردوغان لإنقاذ السويد/ علي الزعتري
تشرق الشمسُ من الشرق فقالت الامبراطورية البريطانية أن الشمسَ لا تغربُ عنها، وكأن شرف الإشراق الكوني الذي حظي به العالم القديم لا يليق إلا بالمستعمرين. لكن في هذا مبالغةً تعودُ إلى حنقي وغضبي من الاستعمار خاصةً البريطاني. والحقيقة التي نعرفها هي أن الاستعمار لا يخضع للاتجاهات الجغرافية، بل للمصالح المتوخاة. اليوم كما كل يوم في كل قرنٍ فات نرى اتصالات الدول شرقاً وغرباً في سعيٍ حثيثٍ لخلق المصالح وحمايتها. دورةٌ قديمةٌ قِدمَ التاريخ والامبراطوريات. الكل منهم يعتبر نفسهُ أولاً وآخراً إلى أن ينهارَ من الداخل الفاسد أو الخارج الأقوى فيأتي غيره ويعيد الكرَّة. بعضهم ظالم وبعضهم يظن نفسه عادلاً وبين هذا وذاك شعوبٌ لا حول لها ولا قوة. باسمها تقوم وتذوي العواصم والرايات. الثابت الوحيد هو عناد البقاء ومصلحته.
خُذْ مثلاً قبيحاً، الصهيوني هيرتزوغ وهو في واشنطن ليستمع للتأييد المتكرر من إدارة بايدن والمنظومة التشريعية وسرورهِ بالتأكيدِ الذي سمعهُ كيف أنه لو لم تكن “إسرائيل” لصنعَ بايدن أو أمريكا واحدةً. قالها بايدن وهو يبدو على وشك أن يغط في النوم على مقعدهِ، وهي عادةٌ يتبعها ليبدو متعمقاً في التفكير ثم ينطقُ بالجوهرة. الصهيوني هيرتزوغ اصطحب معهُ لواشنطن والدَ صهيونيٍّ أسيرٍ في غزة لكي يحصد المزيد من التأييد في تلك العاصمة ضد الفلسطينيين. لا أحد يريدُ تذكير هيرتزوغ بجرائم جيشه وأجهزتهِ ضد الفلسطينيين. عضو مجلس النواب إلهان عمر أعلمت أنها ترفض حضور كلمته للمجلسين الذين سيقف أعضاءهما تصفيقاً وتمجيداً للصهيونية، وتأييداً للتحالف معها لتدمير الأعداء المشتركين لهما من روسيا وإيران لحزب الله والفلسطينيين. هي المصلحة المشتركة لبلدين قاما على مبدأ إبادة شعبين. يُغَلَّفَ هذا المبدأ بالمثاليات ليقتنع المُبيد والمُباد. الصهيونية لن تتوقف ولا واشنطن عن حمايتها فجذر المسألة لهما أحقية حياة لهم والاستخفاف بحقنا فيها. فهل خطرَ ببالِ قادة العرب الذين يحجون لواشنطن أن يأخذوا معهم ولو صورةً لأسير يريد أن يبقى وأهله ووطنه ليقنعوا بها واشنطن بعدالةِ حقنا في الحياة؟ لا نعلم وإن كنا نشك أنهم يفعلون لأن المصلحة ليست لحياة الشعوب بل للتمكن من ضبطها لتتقبل مصالح غيرها. وفهمكم كفاية.
شرقاً كان وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في الصين عندما كان هنري كيسنجر ذو المائة عامٍ والعقل المتوقد قد عزم ليزور بيجين وليلتقي مع الرئيس الصيني و وزير الدفاع وكبار المسؤولين هناك. كيسنجر رسم في السبعينات خارطة الاعتراف بالصين و إبقاء الحبل الصُرِّي مع فورموزا أو تايوان متعلقاً أبدياً بواشنطن. عادت الصين بعد خمسين عاماً لتكون نِدّاً عنيداً لواشنطن و أكثر من شوكةٍ في قلب تايوان بل و العالم كما تراها واشنطن. وها هو اليوم صانع السلام يعود للصين لينسج تفاهماً ما.
ad
الإدارة الأمريكية قالت أن زيارتهُ خاصةً و إن لا تستبعد أن يُطلعها على محادثاتهِ كما فعل مراراً في الماضي. لا بد ان تُعجبَ بالمئوي الكيسينجري و تَعْجَبَ منه لبقاءهِ فاعلاً في السياسةِ الدولية و مُتَقَبَلاًّ من الدول العظمى. ليس سهلاً بالمرَّة أن يجلس الرئيس الصيني مع كسينجر و لربما أراد تكريمهُ للتاريخ لكنه حتماً استمعَ و أَسمَعَ، و قَدَّرَ أن هذا الرجل أوعى من رئيس بلاده. مزيجٌ من الجينات و الثراء و الغذاء والرعاية تمكنهُ صاحب سياسةِ “الخطوة خطوة” من أن يصل لهذا العمر بهذه العقلية والقدرة البدنية. فهل سنراهُ في موسكو و كييف؟ هل سينتج عن و من مساعيهِ الهبوط الآمن لعالمٍ متوحش بالقطبية الواحدة التي كان فاعلاً في خلقها ليصبح متعدد الأقطاب المتصالحة؟ أم أنه سيعود ليقول لواشنطن أن تنحني للتنين والدب و ترضى بالمحاصصة؟ أم أنه سيتنبأُ بالنهاية الدموية في حال العناد من أي طرفٍ؟ من الواضح أن واشنطن تلقي بالمغريات والمهددات للصين لنزعها من لائحة الأعداء و لو لفترة، غير أن الزمان يتغير لدرجةٍ لن تُقنِعَ الصين بالعودةِ عن مَدِّ نفوذها. ليس للتنبؤِ مكانةٌ في سياسةِ الصين العميقة لكننا لن نغفل عن حكمةٍ ترعاها الصين للبقاء المزدهر وقدرةٍ لكسر كل جمودٍ علميٍّ ابتكاري للبقاء. ربما يستبعد هذين العاملين اشتباكاً مباشراً مع الغرب و لا ينفيهِ فالصين ترى الوقت في صالحها و لا ترى مصلحتها في حربٍ مع واشنطن مع إدراكها بالشباك المنسوجة حولها. السؤالُ الأهم هو إن سيكون ضحيةَ التفاهم مع واشنطن روسيا في أوكرانيا أم روسيا عموماً أم أن الصين ستبقى مادَّةً جسور الحرير و الفولاذ للجميع، مع الجميع و ضدهم؟ سينظر و ينتظر الروس للتناغم الصيني الأمريكي بكثيرٍ من الحذر. خطواتٌ أسرعَ وأمضى قد تكون مطلوبةً لتأمين الموقف الصيني. يدرك پوتين أن الصين لن تنثني للغرب و عليهِ إقناعها أن حرب أوكرانيا هي حربُ الحليفين يقودها هو نيابةً. عليهِ فيها الانتصار الحاسم و إلا فهو الخاسر الأكبر.
أما پوتين فآثرَ أن يبقى في حِماهِ بموسكو عن أن يسافر لجنوب إفريقيا. هل كان هذا القرار بتأثيرٍ من مذكرة الاعتقال الدولية بحقهِ؟ قال البلدان أنهُ كان قراراً مشتركاً لتمييع إحراجٍ كانت جنوب إفريقيا ستقع فيه لو زارها پوتين ولم تقبض عليه. وكان تفادياً للتحدي الروسي للغرب في مسألةٍ محسومةٍ روسيَّاً لكنها من قبيل الحكمة، ولو كانت حنظليةَ المذاق، لأن قرار المحكمة نافذٌ وإن كان جائراً، فهل صدرت قراراتٌ للقبض على مجرمي إبادة مثل توني بلير و جورج بوش و كل صهيوني يمارس الإبادةَ بفلسطين؟ و القرار الروسي جنوب الإفريقي محكومٌ بالعلاقات الوثيقة بينهما فلا جنوب إفريقيا ستقبض علي أي مسؤولٍ روسي و لا هم يخافون السفر إليها و الغرب يعلم ذلك. قبل أسابيع كان أسطولي البلدين يقومان بمناورات مشتركة فكيف لجنوب إفريقيا أن يراودها هذا و هي التي لم تقبض على عمر البشير عندما زارها قبل سنوات وكان ملاحقاً ويزال و هو ليس مقامَ مقارنةً ببوتين. ثم أن بوتين لا يحتاج حضور قمةٍ بينما تخوض بلاده معاركها الأوكرانية على كل المستويات وتخوضَ ما هو الأهم وهو تكييف النظام العالمي للتوازن الذي بدأ بخطواتٍ عمليةٍ مع الصين والدول متوافقةَ التفكير معهُ. وجنوب افريقيا والمحكمة لا يترأسا جدول أعماله بقدر ما يولي اهتماما لجبهته الداخلية والطموح البولندي في غرب أوكرانيا وكذلك الموقف التركي.
يأخذَ الطيب أردوغان السياسةَ لمستوىً يثير الحيرة والإعجاب ولا يمكن وصفه إلا بسيادة المصالح. فها هو يزيحَ اعتراض تركيا على انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي مقابل صفقةِ طائراتٍ مع واشنطن وربما تسليمهُ العدو اللدود فتح الله غولن، بعد مزيد العطاء، ويعطي أوكرانيا قادةَ أوزوف فيُغضبَ روسيا، وينطلق للخليج في جولةٍ تسويقية يهدي فيها سيارة تركيا الكهربائية ويوقع اتفاقيات تعاونٍ مليارية لا بد أن تعين اقتصاد تركيا. وهو قال أنه سيتداول مع حلف الناتو مساراً آمناً لشحنات القمح و الحبوب الأوكرانية في البحر الأسود و لا نعلم ماذا يعني هذا. لاعبٌ كبيرٌ في ميدانٍ شائكٍ يُبدي استقلاليةً لا تأبه إلا بمصلحته الوطنية.
إنها دول وعصابة هي الصهيونية ترعى مصالحها بالسياسة والرصاصة. وتبدو ناجحة في هذا. ثم أنظر لنا فأرى رعاية مصالح لو سئل عنها عامة العرب لضربوا كفا بكف لغموض هذه المصالح وانحيازها ضد شرع وانتماء. هذا ما نرى. أتوقفُ هنا عند حدودنا، بكل ما تعنيه الحدود من معانٍ.
دبلوماسي أُممي سابق
الأردن
المصدر