لماذا يتمسك الفلسطينيون بالعروبة؟/ السفير د. عبدالله الأشعل
18 أغسطس 2023، 00:39 صباحًا
عندما بدأت الموجات الأولى للهجرة اليهودية أعترض الفلسطينيون على هذه الاجراءات وظنوا أنهم جزء من أمة عربية واحدة لن تفرط فيهم وسوف تمنع الذئب اليهودى والعدو الصهيونى من اختطاف فلسطين خاصة وأن عملية الاستيلاء على فلسطين استغرقت قرنا كاملا. صحيح أن أدوات التواصل كانت فقيرة والمعلومات المنقولة من فلسطين إلى العرب كانت شحيحة وتتحكم فيها وسائل الاتصال الغربيةبحسبان أن الغرب هو الذى تبنى المشروع الصهيونى.
فلما ظهر العرب فى الصورة ابتداءا من مؤتمر فرساى 1918 وأن سياسة التقابل بين فلسطين وبين كراسى الحكام اظهرت للفلسطينيين أن الحماية العربية لهم أسطورة لكن هذه النظرية لم تكن واضحة يومها وظن الفلسطينيون أن الأمير فيصل أبن الحسين الذى فر مع والده وأخوته خارج الحجاز سنة 1915 ظنوا أنه مجرد أمير صغير لا يقدر العواقب حين أظهر الفلسطينيون أنه وقع على وثيقه مع بريطانيا ومع الوكالة اليهودية التى كانت قد نشأت عام 1918 أنه يوافق على اعطاء فلسطين لليهود مقابل أن يتولى حكم سوريا. فلما رفضه السوريون نصبته بريطانيا على العراق وكان مصيره القتل والسحل فى ثورة العراق عام 1958 ومن قبلها ثورة رشيد عالى الكيلانى ضد الانجليز عام 1941. هكذا وقع فى روع الفلسطينيين أن الخيانة العربية هى السند الأول لليهود فى الاستيلاء على فلسطين ثم كانت المحطة الثانية فى حادث البراق عام 1929 حيث بعث الملك (السلطان عبدالعزيز آل سعود )أبنه الأكبر ووزير خارجيته الامير فيصل لكى يهدئ الفلسطينيين ويطمئنهم إلى دعم والده لقضيتهم ولكن الشاعر الفلسطينى عبر فى حفل استقبال الأمير فيصل فى القدس عن شعور الفلسطينيين جميعا المتشكك فى قدرة العرب على حماية الفلسطينيين حيث قال
ياذا الأمير أمام عينك شاعر
ضمت على الشكوى المريرة أضلعه
المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودعه
ورغم أن عصبة الأمم حسمت القضية لصالح العرب إلا أن بريطانيا العظمى بالتواطؤ مع العرب أسقطت القضية وكانت المحطة الثالثة عندما قامت ثورة القسام عام 1936 وكادت هذه الثورة أن تلجم وتوقف الهجرات اليهودية إلى فلسطين ولكن تدخل العرب مرة أخرى بدعوة من بريطانيا حتى يوقعوا على وثيقة تضمن موافقتهم على الهجرة اليهودية وبالفعل عقد مؤتمر لندن سنة 1939 وكان فى الحقيقة الهدف منه بالاضافة إلى ذلك هو ان تضمن بريطانيا وقوف العرب معها عندما هبت رياح الحرب العالمية الثانية وبالفعل قرأنا فى كتب التاريخ العربية أن الكتاب الأبيض البريطانى كان انتصارا للعرب وهو هزيمة ماحقة للفلسطينيين حيث وافق العرب على أعداد المهاجرين اليهود وهو أول تقنين عربى يتضمن الموافقة على هجرتهم النظامية بدل العشوائية وأضمرت بريطانيا فى ذلك الوقت أن تدرب ثمانية عصابات صهيونية ضمن الجيوش البريطانية فى الشرق الأوسط وهى العصابات التى قاتلت الفلسطينيين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأقاموا دولة إسرائيل بالتواطؤ مع بريطانيا العظمى .
وعندما قامت إسرائيل عام 1948 رتبت بريطانيا أوضاع السلطة فى مصر عندما أدركت أن الملك فاروق عقبة فى سبيل الاعتراف بإسرائيل وقدرت أن مصر الملكية يمكن أن تحبط المشروع الصهيونى وبالفعل وصل الضباط إلى السلطة بديلا عن الملك وإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية عام 1953 وفى عام 1954 بعد أن استقر الأمر لجمال عبدالناصر بعد التخلص من زملائه الضباط ومحمد نجيب والإخوان المسلمين الذين روجوا له وللضباط فى المساجد على أساس أنهم الشباب المؤمن وصورت بعض مقالاتهم بانهم يتساوون مع شباب الكهف الذين آمنوا بربهم وزدناهم هدى وأعلن جمال عبد الناصر شعاراته القومية ثم أعقب ذلك مذبحة الجنود المصريين فى غزة آخر فبراير 1955 ثم الصدام مع الولايات المتحدة ثم التأميم ثم عدوان 1956 وشعر الفلسطينيون أن مصر الجديدة سوف تختلف عن بقية العرب وتحميهم من الصهيونية وبالفعل تعزز هذا الانتماء لديهم إلى العروبة لعل العروبة لا تفرط فيهم خاصة وأن جمال عبدالناصر أنشأ منظمة فتح المسلحة عام 1965 وبالفعل بدأت فتح المقاومة المسلحة من الأراضى الاردنية واللبنانية وتولى جمال عبدالناصر حراستها حتى كانت مأساة 1967 أدرك الفلسطينيون يومها أن العرب لا يعتمد عليهم ولكن لاحظوا أن إسرائيل أستولت على كل الاراضى الفلسطينية بعد أن كانت فى حدود قرار التقسيم ولاحظ المراقبون أن العروبة والمقاومة الفلسطينية كانت علمانية حتى تجذب أكبر عدد ممكن متعاطف معها من أتباع الشرائع المختلفة السماوية والارضية وعندما بدأت إسرائيل سياسة التهويد للأراضى الفلسطينية أدرك الفلسطينيون أنهم معرضون للابتلاع وانشغلت كل دولة عربية بأراضيها المحتلة من إسرائيل فإنشغلت مصر والأردن وسوريا بهذه الأراضى ولم يحرك أحد ساكنا بعد 1967 فى القضية الفلسطينية بل أن إسرائيل احتلت بيروت عام 1982 خاصة بعد تقارب أنور السادات مع إسرائيل والولايات المتحدة فأدى احتلال إسرائيل لبيروت إلى النتائج الآتية :
اولاً رحيل المقاومة الفلسطينية من المنطقة بأسرها
ثانياً ثبوت الاتجاه العربى إلى الانحياز إلى إسرائيل وليس إلى فلسطين
ثالثاً تسليم العرب بأن مصير فلسطين لليهود وأن فكرة الدولة الفلسطينية ذر للرماد فى العيون ويلحق بذلك موافقة العرب على قرار التقسيم بمفهوم إسرائيل وموافقتهم على التنازل عن ربع مساحة فلسطين لإسرائيل خارج قرار التقسيم وعبثا حاولنا أن نعدل الصيغة العربية للسلام مع إسرائيل ولكن يبدو أن الارادات العربية مرهونه وليست خالصة للعرب.
والخلاصة أن انكمش التيار القومى فى صفوف الفلسطينيين نتيجة هذه الهزائم المتلاحقة واحباط فلسطينى من العرب خاصة فى السنوات الآخيرة عندما عبر الفلسطينيون صراحة عن عدائهم للدول التى دخلت مع إسرائيل فيما يسمى المعاهدات الابراهيمية اعتبارا من 2021 وما بعدها وفى هذه اللحظة أدرك الفلسطينييون أن البيئة العربية هى التى خذلتهم وأنه لايعول عليها وبدأت منذ تلك اللحظة اعتماد المقاومة الإسلامية التى قامت فى الانتفاضة الأولى عام 1987 والانتفاضة الثانية عام 2000 وهكذا حلت المقاومة الإسلامية محل المقاومة العلمانية القومية وحلت التيارات الإسلامية محل التيارات القومية التى اعتبرت أن هزيمة العرب أمام إسرائيل عام 1967 هزيمة للتيار القومى وقد كتبنا مطولا فى نقطتين التقت عندهما التيارات القومية والتيارات الإسلامية وهما انكار القطرية لصالح القومية وانكار الديمقراطية لصالح الدكتاتورية سواء القومية أو الإسلامية وهذا هو لب الصراع الآن داخل فلسطين بين تيارين تيار فتح الذى أبرم أوسلو ويريد التحالف مع إسرائيل ضد المقاومة والتيار الإسلامى الذى يتبنى المقاومة ولكن خلال هذا العام 2023 ظهر اتجاه جديد فى فلسطين وهو الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاحتلال الإسرائيلى واستعادة الهوية العربية لفلسطين بعد ابرام صفقة القرن ولم يعد الفلسطينيون يؤمنون بالتقسيمات الوهمية بين قومى وإسلامى وانما يؤمنون بأن المقاومة بكل أشكالها هى الطريق الوحيد للاحتفاظ بفلسطين ولا عزاء للعرب فى حسابات الفلسطينيين.
ولذلك اختفت شعارات المصالحة الفلسطينية والصف الفلسطينى الواحد أمام عرين الأسود وبطولة كتائب جنين بالاسابيع الأخيرة وهكذا حلت القومية الفلسطينية مكان القومية العربية.