المدرس/من التخرج إلى التفرج../ المرضى محمد أشفاق
ستحلم كثيرا، ستبني لك الأوهام عمارات تهمس في أذن القمر، ستجري حول ضياعك الأنهار..ويطربك حنين النوق وخوار البقر، ستقبل عليك الدنيا بصامتها، وناطقها، وتغني بفضلك القيان.. يا ولدي! وستتخير من الحور العين، اللائي لم يطمثهن إنس قبلك ولا جان، ويمتلئ صحن بيتك بناشئة صغار، أنقياء كالملائكة، لا يعصونك ما أمرتهم، ويفعلون ما يؤمرون…وتستمر النومة كالخدر، ثم تشعر بوخز خفيف ينبهك برفق، لكنه لا يمنحك تمام اليقظة، فتواصل الشخير، ثم يشتد الوخز، ويختفي مفعول الخدر، وتصحو في يوم ملتهب، من أيام حمارة القيظ، وتفرك عينيك، وتمسح عنهما أتربة العواصف المتتالية، وتتفقد بالذاكرة عدد الشهور المتبقية من دين المصرف، ثم تخبرك مذكرة الجيب بحلول دين القراض من تاجر المواشي…….ويكتمل الصحو، فتعي أنك كنت نائما غبيا، كنت طفلا يركب حصانا من خشب…يا ولدي! ستدرك بعد فوات الأوان، أن كل شقائك، وحماسك، كل الغبار الذي أكلك، كل تعثراتك، وإنجازاتك، كل أسفارك، وأتعابك، وأمراضك، كل أمواج العرق الساخن التي حملتك إلى غابات الأفاعي، وجبال الجن، كانت كروعا في بحر السراب..
سيبدو لك أن كل الشقوق الغائرة في شفتيك، وقدميك، كل السنين التي سهرتها، وعركتك، كل المسافات التي قطعتها من (فصاله) إلى (كرمسين)، ومن (غابو) إلى (وادان)، كل التجاعيد المحفورة في جبهتك، كل الجهود، والتضحيات التي زرعت غابات الشيب في عارضيك قبل الإبان، كانت وهما شاردا في عاصفة الضباب… ستوقن أن كل أحلامك الجميلة قد تكسرت على خيبات آمالك، كل آلامك، وأوجاعك، وأوهامك، كل عشقك في عمرك المهني الطويل، كل الليالي التي قتلتها، وقتلتك، لبناء هذا الهرم الزمني الكبير، كانت سباحة في الرمل الحارق، واصطيافا على شواطئ الأزمنة الرديئة…ستركلك نكبة 99 ركلة جزاء، ويتلقفك معاش مجهري خارج الملعب، ليكون سطرك الأخير سقوطا حرا في المثلية المهنية، شيخا يحاول أن يعود أستاذا رضيعا، فيتعذر عليه مص ال(بِيبْرٌوهْ) من جديد، فيقف كما كان يقف منذ نيف وثلاثين سنة، أمام أمة تنكره، وينكرها، تسخر من شيبته، ويشفق عليها، أو سائلا يشحت رحمة البخلاء، أو متطفلا على حرفة لا يتقنها، أو باحثا عن وظيفة وهمية يأتيه ريعها سرا، أو ناقلا يحاول ضبط مخارج حروف(اكريك، وآمورتيسير، وديسك آمبرياج)، أو سائق (وَاوْ) ينقل قمامة الحي إلى المكبات البعيدة، أو بائعا متجولا يعرض دقيق السمك المتعفن، أو طاهيا يشيط طعامه، ولا ينضج…
يا ولدي!سيقذفك يم الحياة الحالمة أمس، إلى الهوامش المنسية اليوم، شيخا فانيا، يحسبه التافهون كومة لحم عجفاء، تسللت خطأ من مصارف العصور الخالية…ستنكر من الدنيا ما تنكر منك الدنيا، فلا الأفعال أفعال، ولا الأحوال أحوال…ستجدك تاجر علم طوافا على البيوت، تنادي على بضاعة مجزاة، تنقر طبلة كالبهلول: انتباه، انتباه، طنْ، طنْ، طن، من يشتري درس كان وأخواتها، انتباه، انتباه، طن، طن، طن، من يشتري درس الاقتباس، والتضمين، انتباه، انتباه، طن، طن، طن، من يشتري درس معاني الزيادة، وعين الفعل في المضارع، انتباه، انتباه، طن، طن، طن، من يشتري كيف نحلل نصا تحليلا أدبيا، انتباه، انتباه، طن، طن، طن، من يشتري درس فرائض الوضوء، انتباه، انتباه، طن طن، طن، من يشتري درس الفلسفة والعلم، انتباه، انتباه، طن، طن، طن، من يشتري درس ضرورة الشك، طن، طن، طن، من يشتري درس مؤتمر باندونك وعدم الانحياز.. طن، طن، طن، من يقبل هذه الدروس مجانا، طن، طن، طن، طن، من يقبل هذه الدروس مجانا وله هدية…تتوقف السيدة عن كنس الشارع، وتقول لك:(الْكَهِلْ هَاهْ شَمَّمْنِي لَعِدْتْ اتْشِمْ)، ثم تعطس، ويبلل وجهك رذاذ أنفها الأحمر، كصديد الجراح المنكوءة..تحرك إبرة المذياع فتسمع الصحفي يقول: في اليوم السابعِ عشرَ من رمضان…فترد لا إراديا: (مر ينسخك) السابعَ عشرَ..وتواصل الهراء: العدد المركب من 13 إلى 19سواء كان ترتيبيا أو أصليا مبني على فتح جزئيه..