مواقف/المرتضى محمد اشفاق
في منتصف الثمانينات مر بي شاب واقفا أطلب سيارة أجرة من لكصر إلى وسط المدينة، فلف قافلا، نزل وحياني بأدب وطلب مني أن يوصلني إلى حيث أريد، فامتنعت لأنه تلميذي في إعدادية البنين ويدعى ولد ماركو، وكان تلميذا مهذبا، ولم تكن السيارات في تلك الفترة منتشرة كانتشارها اليوم، لم أشأ أن أكبت في تلميذي تصرفه النبيل، بل أردت أن لا أجرح شعوره بتشويه الصورة المثالية الجميلة التي يحتفظ بها لأستاذه، وقد تركت في أذهان تلاميذي أن الأستاذ يعطي ولا يأخذ، حسبه من تلميذه حسن التحية والأخلاق…
لا شيء يحتفظ للمدرس بعظمته كصون الكبرياء..فإن حافظ على نفسه قناعةً، وأخلاقا، وثباتا، وأدرك أنه يقدم دورسه الأخلاقية في الشارع، وفي طريقة بيعه وشرائه، وتعبيره عن فرحته وحزنه، وأن عليه أن يظل المعطيَ لا الآخذ، يبق المثالَ الأعلى لمن تحمل صناعة الأجيال…
تضطرني بعض الظروف إلى دخول طابور الانتظار، فيحاول بعض تلاميذي القدماء الذين يتقدمون رتبتي في الصف أن يقدموني فأمتنع، لأن احترام الطابور سلوك مدني، وانضباط أنا أحق به، وامتناع عن ظلم الآخر، وهو لهذا من المعارف الأخلاقية التي يفترض أن يكون المدرس قد علمها التلاميذ، فليحافظ عليها حتى لا تتناقض دروسه مع سلوكه، فيجرح شعور تلاميذه وقد صاروا رجالا، وتنحط قيمته لا إراديا من أذهانهم…
ويظل توقير المدرس، وإظهار الاستعداد لخدمته سلوكا نبيلا من تلاميذه السابقين الذين يلتقيهم في مرافق يخدمون فيها، لكن الأنبل هو الاستغناء عن تلك الخدمات مع إظهار الشكر والارتياح…
نادرة نادرة..
دخل صاحبنا مرة مرفقا عموميا يخدم فيه بعض تلاميذه السابقين، فانتشي لأنه رأى غرسا شارك في سقايته قد أثمر، وزعم-لغبائه- أنهم سيوقفون أعمالهم، ويلتفتون إليه عارضين خدماتهم، مبتسمين مبتهجين، وأحزنه ذلك الوهم حزنا شديدا لأنه لا يرضى أن يختل نظام المرفق، ولا يقبل أن يكون سببا في اختراق الطابور..
ثم بدا أن صاحبنا كان في حلم جميل، أيقظه منه انقطاع تلاميذه السابقين، الموظفين الجدد لصمتهم وقد ولوه الظهور، وبخلوا عليه بالتحية، وكانوا فيه من الزاهدين، عفوا، وكن فيه من الزاهدات، وتلك أكبر الأختين.
ما زلت إلى اليوم- وقد بلغت من العمر عتيا- لا أستطيع تجريد أسماء معلميّ وأساتذتي من صفتهم التعليمية، وأرى في التجريد شيئا من العقوق، وأعتبر الاحتفاظ باللقب آكد في كبرنا لإدراكنا حجم ديْنهم وحقهم علينا..
جمعتني إعدادية البنين مع أستاذي الأول للغة الفرنسية والتاريخ والجغرافيا السيد (با فار)، فلم أقبل أن أظهر أمامه إلا تلميذا، أحرص ويحرص على أن نجلس معا، لكنني أبقى في صمتي وهدوئي أمامه رغم إلحاحه علي بإبداء آرائي في مجالس الأساتذة…
بعد ذلك حُوِّل إلى المؤسسة أستاذي (بله ولد الشيباني) رحمه الله، لما دخلت قاعة الأساتذة أحمل حقيبتي همس في أذن مدير الدروس همسا سمعته:(ذوك اطفيل إياك ماهو أستاذ)، ولما تعارفنا، وأخبرته أنه درسني التاريخ والجغرافيا في الثانوية العربية ارتاح كثيرا، وظل يحرص على أن أجلس بجانبه، يحجز لي مقعدا بمحفظته، ويقول لي:(آن نبغ يكعد احذاي ألا أنت الي الباسك زين وادير المسك)، كان بله رجلا جماليا، نظيفا، حسن المظهر، كيس المخبر..رحمه الله وجعله في أعلى الجنان…