عودة أوديسا إلى روسيا واستعداد لخوض الحرب العالمية الثالثة/ رامي الشاعر
يصر زعماء حلف الناتو على استخدام نظام كييف في مواصلة الهجوم المضاد الفاشل منذ 4 يونيو الماضي، على الرغم من خسارة ما يربو على 90 ألف قتيل في هذه الفترة وحدها وحتى اليوم، ناهيك عن الخسارة الفادحة في المعدات، وبرغم ما تأكد من التوقعات الروسية باحتراق الدبابات والمعدات الغربية على نفس المنوال. وبرغم عجز قوات كييف لاختراق الخط الأول من الدفاعات الروسية، وتحقيق ولو أي نصر يقدمونه لأسيادهم في واشنطن، إلا أن الولايات المتحدة وتابعيها من العواصم الأوروبية يواصلون إمداد نظام كييف بمزيد من الأسلحة، ويلقون بمزيد من أبناء الشعب الأوكراني إلى الموت الحتمي.
لقد كان المنطق الأمريكي/الغربي يستند في بداية الحرب إلى فرضيتين ثبت خطأهما بكل تأكيد، الفرضية الأولى هي أن الجيش الأوكراني، أقوى جيوش أوروبا. لهذا قام الغرب بتضليل الكثير من الشباب الأوكرانيين، ممن قامت دول “الناتو” بتدريبهم، وإقناعهم بأن الحلف سيدعمهم ويساندهم بكل الاحتياجات، بما في ذلك التدخل المباشر لـ “إلحاق هزيمة استراتيجية بالجيش الروسي”، بل وصوروا لهم الوضع في الجيش الروسي والأجهزة الأمنية الروسية أنها على حافة الهاوية، وتعاني من مشكلات داخلية وانقسامات، وهو ما سيؤدي إلى “حدوث انقلاب في موسكو” مدعوم بشريحة كبيرة من الشعب الروسي، وأوهموهم بأن كل شيء جاهز لـ “سقوط نظام بوتين” وربما تفكك روسيا، وبالتالي هيمنة الغرب على موارد المساحة الشاسعة (17 مليون كيلومتر مربع). الفرضية الثانية كانت أن العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب ضد روسيا مهدت لكل ما سبق، حيث أن الاقتصاد الروسي هو الآخر في حالة انهيار، وهي النظرية التي اقتنع بها جزء كبير من الشعب الأوكراني، لا سيما في الجزء الغربي من البلاد، والذي تعاون معه الغرب، مثلما تعاون هتلر أيضا مع هذا الجزء من أوكرانيا في الحرب العالمية الثانية، فيما يبدو أن رواسب النازية لا زالت مزروعة في نفوسهم ليومنا هذا. أقنع الغرب جزءا كبيرا من الشعب الأوكراني بأن التغييرات المرتقبة ستحمل الخير لأوكرانيا من خلال موقعها الاستراتيجي، حيث ستمد الغرب بكل ما يحتاجه من موارد روسيا، وهو ما سينعش البلاد ويؤدي إلى ازدهارها وثرائها، ناهيك عن أن أوكرانيا “بالقطع” ستصبح عضوة في الاتحاد الأوروبي و”الناتو”. ومعلوم كيف هاجر كثير من الأوكرانيين، خلال السنوات العشر الأخيرة، حتى قبل بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة، جراء الوضع الاقتصادي المتدهور نتيجة للفساد. هاجروا إلى دول الاتحاد الأوروبي وعملوا في مجال تقديم الخدمات كمواطنين من الدرجة الثانية، وخدع هؤلاء أيضا على وهم أنهم سيصبحون في وضع أفضل، بعد أن تصبح بلادهم عضوا في الاتحاد الأوروبي. راهنت الولايات المتحدة على تلك الخطة وعلى أن الزج بالجيش الأوكراني المدرب من قبل “الناتو”، والموقف الغربي الصارم ضد روسيا، سيحققان هدف الهيمنة على روسيا.
تمكنت القوات المسلحة الروسية في خلال أسبوع واحد من القتال من تحطيم الفرضيات والأحلام بخصوص تحقيق أي نجاح للمخطط الذي أحيك ضد روسيا. وأصبح من الواضح أن الصراع سيمتد إلى أجل غير معلوم، وأن القوات الروسية قادرة على سحق القوات الأوكرانية، إلا أنها كانت في البداية تتعشم أن ينقلب الجيش الأوكراني ضد كييف، وحينما لم يحدث ذلك، تعاملت ولا تزال القوات الروسية تتعامل بحكمة وضبط شديد للنفس على الرغم من جميع التكتيكات والممارسات الإرهابية التي تتعمد القوات المسلحة الأوكرانية اللجوء إليها. اتضح ذلك في ماريوبول، وفي أرتيوموفسك (باخموت الأوكرانية)، وفي عدد من المدن، اتخذت فيها القوات الأوكرانية، بعد مشاورات مع القيمين الغربيين، قرارات باستخدام المدنيين دروعاً بشرية، تماماً كما كانت تفعل داعش والقاعدة في سوريا والعراق من قبل.
على مستوى الاقتصاد، أثبت الاقتصاد الروسي مرونة غير عادية في تلقيه الصدمات، حتى أن حجم النمو الاقتصادي لهذا العام سوف ينتهي بالنسبة لروسيا بما يقترب من 2%، على الرغم من كل العقوبات التي يفرضها الغرب على روسيا.
من بين ما أثبته هذا الصراع على نحو أكيد هو أن لروسيا أصدقاء كثر وللولايات المتحدة الأمريكية أعداء كثر، كما قرّب هذا الصراع ما بين القوتين العظميين روسيا والصين، وهو ما أصبح يهدد الولايات المتحدة بالانهيار الحتمي، ويؤكد انتقال العالم من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب لا تسيطر عليه الولايات المتحدة أو الغرب أو أي من المؤسسات المالية الغربية التي ظلت لعقود تهيمن على الاقتصاد العالمي. كذلك فقد أثبتت نتائج الانتخابات المبكرة في سلوفاكيا يوم أمس، وفوز الحزب الاشتراكي الاجتماعي الديمقراطي المعارض بقيادة رئيس الوزراء السابق روبرت فيتسو، والمعروف بمعارضته للسياسات الأوروبية الداعمة لتمويل الحرب الأوكرانية، على أن المجتمعات الأوروبية قد بدأت تعي خطورة النهج السياسي المتبع اليوم من قبل قادة أوروبا الحاليين، فيما تؤكد جميع المؤشرات أن التغيرات قادمة، وستحدث في أوروبا الغربية تفاديا لحدوث حرب عالمية ثالثة مدمرة لهم.
كذلك فما ظهر الآن على الساحة الدولية وآخذ في التمدد هو مصطلح “دول الجنوب العالمي”، وبدأت الدول الإفريقية ودول أمريكا اللاتينية ودول آسيا في البحث عن مكان تحت الشمس، وعن تمثيل عادل في المؤسسات الدولية.
كل ذلك يحدث على خلفية إدراك كامل من جانب واشنطن لفشل الحرب الهجينة التي تخوضها ضد روسيا على مدى ثلاثين عاماً، وأن المواجهة العسكرية بين سلطات كييف وروسيا أصبح مصيرها هزيمة أوكرانيا الحتمية، بل وهزيمة “الناتو” إذا ما تدخل بشكل مباشر، والبنتاغون يعي ذلك تماما، لإدراكه حجم الإنتاج الراهن للمجمع الصناعي العسكري الروسي، والذي أصبح يعمل على مدار الساعة بكفاءة مبهرة، بعد أن تحول الاقتصاد الروسي، بمرونة، نحو الشرق، وأصبحت تلك الموارد المستدامة تصب في عجلة الإنتاج العسكري الغزير والمتوفر، في الوقت الذي أصبحت دولة مثل بولندا توقف إمداد أوكرانيا بالأسلحة، بل وتعجز الولايات المتحدة الأمريكية نفسها عن ضمان توفر الذخائر في مخازنها، وتبطئ من توفير بعض أنواع الأسلحة لأوكرانيا.
لقد حاولت واشنطن وعدد من بلدان الغرب خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ثم انضمت إليهم إسرائيل في العقد الأخير، خداع روسيا وكسب المزيد من الوقت لإنزال “ضربة قاضية” لروسيا. لكن روسيا كانت يقظة، تتابع نواياهم واستخدمت الوقت لتتهيأ لإفشال كل أهدافهم وإلحاق الهزيمة بهم. والحقيقة أن كل ما كان يهدف إليه الهجوم الأوكراني المضاد تحول إلى ضده، والآن أصبحت روسيا هي من تشن الهجوم المضاد ضد كل من ساهم بتلك المخططات ضدها، ولن تتساهل أبداً مع كل من تسبب في خسائر بشرية سواء من الجنود الروس أو الأوكرانيين، ومع من ساهم في تحويل أوكرانيا إلى دولة فاشلة شعبها مشرّد.
وفي تقديري أن الوضع الآن أصبح يقترب من اتخاذ قرار من جانب القيادة الروسية، وذلك محض اعتقاد شخصي، بضرورة عودة أوديسا أيضا إلى حضن الوطن الأم روسيا، لأنني أتصور أن استمرار حلف “الناتو” في نهج الاستفزازات ضد روسيا سيدفع روسيا إلى عدم السماح بنشاط أي أساطيل لحلف “الناتو” في البحر الأسود. إضافة إلى أن روسيا الآن أصبحت بكامل الاستعداد لخوض حرب عالمية ثالثة، مع تمنياتي بالطبع ألا يحدث ذلك، خوفا من الدمار الذي سيلحق ببلدان أوروبا الغربية، وتفادي ذلك سيكون فقط بالتفاوض بين روسيا وقادة جدد لبلدان “الناتو” وإدارة جديدة في البيت الأبيض تتفهم أن العالم قد تحول بالفعل إلى عالم متعدد الأقطاب.
يجري ذلك كله بينما نرى بأم أعيننا كيف أصبحت أوكرانيا دولة فاشلة، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا بنسبة 30.4% عام 2022، وهي أسوأ نتيجة في تاريخ البلاد. ومن دون مساعدة واشنطن وبروكسل، لم تعد كييف تتحمل الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، بينما فقدت البلاد استقلالها المالي بالكامل.
باختصار، أصبحت أوكرانيا عبئا على أوروبا، وتوقفت بولندا وسلوفاكيا وهنغاريا عن استيراد الحبوب الأوكرانية، حفاظا على مزارعيها، ومن المتوقع أن يزداد الوضع تدهورا في المستقبل.
وليس أدل من فشل واشنطن في مساعيها سوى محاولات بائسة لإشعال بؤر توتر جديدة في مولدوفا والقوقاز، وهي مخططات مصيرها جميعاً الفشل. حقيقة الأمر أنها حرب نفسية معلوماتية وتفريغ شحنات عاطفية وانهزام داخلي لزيلينسكي وأعوانه، الذين لم يعد لديهم ما يقدمونه للشعب الأوكراني الذي خسر مئات الآلاف من أبنائه في القتال، ولم يعد لديهم ما يقدمونه لـ “الناتو” والغرب، وأصبحوا وجها لوجه أمام فشل ذريع على كل الجبهات، أمام فاتورة باهظة التكاليف ستدفعها أجيال قادمة من الأوكرانيين.
نهاية الأسبوع الماضي احتفلت روسيا بمرور سنة على عودة الأراضي الروسية في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين ومنطقتي زابوروجيه وخيرسون إلى روسيا، وهو ما أسفر بطبيعة الحال عن فقدان أوكرانيا لـ 18% من أراضيها، التي تنتمي تاريخيا إلى روسيا، إضافة إلى سكان تلك المناطق ومواردها وطاقتها الإنتاجية. ولم تدرك أنظمة كييف المتعاقبة منذ انقلاب عام 2014 قيمة النصيحة التي أسداها لهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سابقاً مراراً وتكراراً، بأن الحفاظ على السيادة كان يعني الالتزام باتفاقيات مينسك، ويعني الحفاظ على الحياد، وعدم الانسياق وراء السراب الغربي. وتسببت هذه الحفنة من المغامرين، وبدعم من النازيين المتطرفين، في ضياع البلاد والعباد.