حينما يكون للحاكم موقف من الشعر/ ناجي محمد الامام
قضيـــــة الشـــــــــعر
تبرز هذه الأيام مسألة :”الشعر والشاعر و الحكم “طافيةً على سطح الأحداث ،على شكل مواقف حادة وآراء نادة .وعلى طريقتنا العارمة ،لم نتوصل إلى مستوى النقاش الهادئ الرصين الذي تبرز من خلاله أفكار و مدارس ورؤى تسهم في وضع تصورجامع لتنظيم الخلاف و تبويب الاختلاف.
الحالة الطارئة
ولعل الجديد في الأمر أن قضية “الشعر” و موقف الحاكم منه لم تكن مطروحة يوماً في أي بلد في الدنيا ،قبل هذه “النازلة”، لأنه ليس من المألوف أو المقبول أن يحدد مسئولٌ موقفه من اختصاص أو فن أو مهنة أو حرفة ،سلْبا، لأنه معنيٌّ ،حتما، برعايتها وليس بهوايتها.
وإذا قُدِّرَ لهُ أن يتخذ موقفا غير ذلك،فإن الرد عليه يجب أن يتم بالأساليب العصرية الراقية الحازمة التي تناسب سمو الحرف ومكانة سدنته صُنّاع الحكمة وحراس عتباتها المقدسة.
وعندما يتعلق الأمر بالشعر، وفي عرينه الأول ،حيث العلاقة الخاصة الملتبسة بين الكلمة المقفاة وبين الناس كل الناس في هذه الأرض التي لا تُنبتُ مُنتَجًا قابلاً للتصدير سواه، يكون كل طرف قد حدد حكمه ونفذه ،لدرجة أن النقاش يضحى بيزنطيا،لا تُرجى منه فائدة، ومع هذا يتواصل حادا كأسنة الرماح في وسائل الاتصال و وسائط التواصل الاجتماعي ..
في هدوء مساء مصطاف ،وقد فتحتُ نوافذي على الأطلسي دون حائل، وأصختُ فلم أسمع إلا ضوضاء محركات تبتعد إلى نواذيبو و المطار الجديد ،أو تقترب عائدة منهما، وقليلاً من دندنة ابن عوة في حكاياته البتيتية الشجية بدون”شبْح”.. يُرسلها مسجل أشرطة عتيق من ركن قصي في الغرفة ،وجدتُ أنه علىّ أن أبديَ رأيا لا يلزم سوايَ ،أرجو أن أوفق في إيصاله لمن يوافق مزاجه، بلطف، ومن يخالف هواه، بعطف…فأبدأ بالقول:
من هو الشاعر حقيقةً؟
إن الشاعر صاحب موهبة و علم ،كأي صاحب موهبة وعلم ،يعتريه ما يعتري غيره من ضعف له أسبابه، وقوة لها مسبباتها ،ويتدرج صعودا أو هبوطاً، بغض النظر عن الميزتين ، و برغمهما ،أحيانا كثيرة، لسبب وَجيهٍ بديهي يَتيمٍ هو أن الشاعر بشر مُعَرَّضٌ لشرور النفس و نوازعها..
الشاعر عند ناس المنكب ؟
إن الناس كل الناس عندنا يريدون الشاعر إما إلـَهًا أو شيطانًا ، لأنه عندهم يراوح بين مفهوميْ “الشاعر القوال (التروبادور في القرون الأوروبية الوسيط المدَّاح الذمَّام شاعر القبيلة الذي ينافح عنها بالحق، أحيانا، و بالباطل أغلب الأحايين ؛وبين “الشاعرالحكيم” الذي يضع القواعد الملزمة لأخلاقيات الناس و يسجل مآثر الخالدين بالثناء العطر ويبني أهراما من المبادئ الجليلة هي فهرست ديوان العرب.
الشاعر في “ساكسونيا”
الشاعر في رأي ثالث من تقاليد الشعوب الجرمانية، مخالف لحقائق الأشياء. سنتطرق إليه لطرافته، فمقاطعة ساكسونيا الآلمانية الشهيرة بثرواتها وتاريخها الفكري كان قانونها في التاريخ الوسيط يقرر أن الشاعر ليس كائنا بشريا بل هو “حالة ظلال فكرية” واعتبارا لهذ الحالة الخارقة للعادة فعندما يكون شاعرٌ ماَ فى حالة مساءلة قانونية فإن قانون “ساكسونيا” لا يحاكمه كشخص بل يحاكم “ظله “، ولا تطال العقوبة جسده…
الشاعر كما يجب أن يفهم:
والشاعر في حقيقته “مُبْــدِعٌ”، وقد يضيفُ إلى موهبته ، نادراً ،صفة “حامل الرسالة أو المشروع الفكري”، وفى كلتا الحالتين ينبغي أن يُعامل على أساس اختياره، كأي مواطن آخر، بمعنى أنه ليس ملزما إلا بما يعتنقه من أفكار، وبهذا كان المتنبي مداحاً و قدَّاحا، رغم تناقض حِكَمِه البالغة ورسالته السرية ، التي كان يحمل بين جنبيه ،مع المدح الذي هو شكل من أشكال النفاق، كما كان أبو فراس حسوداً نَمومًا مكَّارًا وافر الكيد للمُبدِعين أمثالِه…وكما كان “بيكاسو” ثوريا إسبانيا عظيما خلد مذبحة “الغرنيقة” بلوحة باهرة لا تقدر بثمن في متاحف العالم، فقد كان مواطنُه “سلفادور دالي” العبقري ذو الشاربين المعقوفين باذخ الفن، ملكيا يمينيا أكثر من “الجنرال فرانكو” .
للشاعر حرية الموقف
لكننا، نحن، بتأثير من حركة التحرر العالمية و الميراث الحركي لأسماء معينة، افترضنا أن على المبدعين أن يكونوا جميعا أصحاب مواقف تستجيب لأمزجتنا، معارضين و مُوَّالين، وهذا مخالف لطبائع الأشياء ،فلكلٍّ الحقُّ في أن يكون كما يشاءُ حيث يشاء، وليس لأحد أن يحاكمه على ذلك، فكما يوجد مبدعون فى صف الحاكم، ولهم مطلق الحق، فلمبدعين آخرين مطلق الحق في ان يعارضوا، وليس “الموقف” أيّ “موقف”عيبا بل مظنة شجاعة واستقلال ما لم يكن خيانة و طن أو خفر ذمة أو نقض عهد أو خُلف وَعْد..
الثبات على الخيار
إن محاكمة المبدع ينبغي أن تتم على أساس مدى التزامه باختياراته الأصلية وفي ضوء استمرارية مواقفه المعبرة عنها، واتساقه معها ، فذلك معيار تجذر القناعة و مسبار الصلابة في الرأي والاستقامة المبدئية عنده، والعيب كل العيب في ممالأة الحاكم أو مسايرة المعارضة دون قناعة وثبات عليها…
وختاما …فإنه كما تعتبر البلاد مصدرا رئيسا لخامات الحديد وخامات الجلود وخامات الذهب والنفط والنحاس فمن الإنصاف أن ننصف الكتاب والشعراء و الفنانين ونوفيهم حقهم من الاحترام لأنهم أصحاب المنتج المصنَّع المكرَّر الوحيد الذي تُصدره بلادنا إلى العالم و به تُعْرَف وتُعَرَّفُ،كما تُعرف مصر بالسينما وفرنسا بالنبيذ والعراق بالمقام و اليمن بالدان.
أما أن نتحدث عن غزو المريخ على ضوء شمعة مستوردة و نعيب على الشعراء التغني بنور القمر فتلك حالة أخرى….