الفرنسية تستجدي أساتذة متقاعدين.. فإلى متى؟ / باباه ولد التراد
أصدرت وزارة التهذيب الوطني وإصلاح النظام التعليمي البيان التالي:
(نظرا للنقص الملاحظ فى أساتذة الرياضيات و الفيزياء و اللغة الفرنسية تطلب وزارة التهذيب الوطني من المتقاعدين من فئات أساتذة التعليم الإعدادي و الثانوي و مفتشى التعليم الثانوي و الأساسي و المعلمين المكلفين بالتدريس فى المستوى الإعدادي الراغبين فى التعاقد بصيغة “مقدمى خدمة تعليم ” أن يُودعوا ملفات الترشح لدى المديريات الجهوية للتهذيب بعواصم الولايات التى يرغبون فى العمل بها خلال الفترة من 11 -12-2023 إلى 22-12-2023 الساعة 12H)
وقبل ذلك كتب موقع ريم آفريك بتاريخ:05/02/2021 تحت عنوان “موريتانيا: لا ناجح في مسابقة أساتذة الفرنسية والفيزياء” :
(عجز مئات المترشحين لوظيفة أساتذة الفرنسية في مادتي الفرنسية والفيزياء عن تجاوز عتبة النجاح، واعلنت اللجنة الوطنية للمسابقات أنه لم ينجح اي من المترشحين للمقاعد الاربعين المخصصة لمادة الفرنسية.
وأظهرت المسابقة شغور 152 مقعدا وظيفيا في مسابقة المواد المدرسة بالفرنسية بسبب عجز أغلبية المترشحين عن تجاوز عتبة النجاح.
وجاء توزيع المقاعد الشاغرة على النحو التالي:
– لا ناجح في الشعبة الفرنسية والمقاعد المتاحة أربعون
– لا ناجح في شعبة الفيزياء والمقاعد المتاحة خمسون
– أربعة ناجحين فقط في شعبة الرياضيات، والمقاعد المفتوحة خمسون
– 24 ناجحا في شعبة العلوم الطبيعية، والمقاعد المتاحة أربعون
بينما كل المواد المدرّسة بالعربية حُجزت مقاعدها..
وأرجع مراقبون هذا الشغور إلى ضعف المستويات وخصوصا في اللغة الفرنسية التي تدرس بها موريتانيا المواد العلمية منذ إصلاح 1999).
واستنادا إلى هذا كله فإن المواطن الموريتاني قد أدرك بحسه الثقافي أن اللغة الفرنسية في طريقها إلى الزوال’ وليس لها مستقبل في هذا البلد الذي فرضت عليه ‘وتم تلقينها لأبنائه أزيد من 100 سنة ‘
ومع ذلك لم ينجح – كما رأينا في المسابقات الأخيرة – أي أستاذ في اللغة الفرنسية أو في المواد التي تدرس بها حتى بقيت أغلبية الفصول التابعة لها تستجدي متقاعدين عجزة أكلوا أعمارهم’ ويطمحون لوظائف غيرهم ليتم الاستغناء عن اكتتاب بعض جيوش العاطلين عن العمل باللغة الأم ‘ التي تأكد أن الأساتذة والتلاميذ في بلادنا يتحدثون بها في الأقسام الفرنسية من أجل فهم المادة العلمية’ ولو كان ذلك بطريقة مشوهة ‘ (لحم الرگبه موكول ومذموم).
وفي ذلك يرى علماء التربية أن المعارف التي يتلقاها الطفل بلغته الأم تكون عادة أسهل تحصيلا وأعمق أثرا من المعارف التي تلقاها بلغة مازال في طور تعلمها، لأن لغته الأصلية تسود يوميا في الحياة العائلية والاجتماعية ،وتظل في الميدان الدراسي لغة للتواصل بين التلاميذ والمدرسين.
كما أكد هؤلاء العلماء أن النصوص المودعة في كتب تدريس اللغة، أي لغة لن تكون محايدة فهي مشحونة بمعارف حضارة تلك اللغة، لذلك لا يخلو نص عربي مثلا من ذكر لحديث شريف، نصا أو روحا، أو حكم وفوائد جمة أخرى ، سيما أن اللغةُ العربية ذات ميزات عديدة، فهي أوسع اللغات وأصلحها ، ولها جذور متناسقة لا تجد لها مثيلا في اللغات الأخرى ،مع أن البيان الكامل لا يحصل إلا بها لقوله تعالى ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ فدل ذلك على أن سائر اللغات دونها في البيان.
وهذا ماجعل الكتاب والمدونون الموريتانيون يطلقون صيحات الإستغاثة مرددين بصوت واحد “درسني بلغتي” بعد أن مكثنا جميعا أكثر من 20 سنة في ظل الكارثة التي جلبها “إصلاح” 1999 للتعليم في بلادنا حيث حط من قيمة اللغة العربية وعزز مكانة اللغة الفرنسية مما أدى من بين أمور أخرى إلى نقص كبير في سيادة الدولة’ وتدني فظيع في مستوى التلاميذ ،وربط مستقبلهم بلغة شبه مية وهي جريمة في حق الشباب.
وفي هذا الشأن كتب محمد الامين اممد تحت عنوان درسني بلغتي (حين يكون أستاذ المادة العلمية التى دُرست لك منذ دخولك الابتدائية ثم الاعدادية والثانوية وحتى الجامعة لايقدر أن يوصل لك الفكرة المقصودة إيصالا تفهم منه إلا بعد شرحه لك بالعربية أو الحسانية أحيانا مع مزجها بالفرنسية التى تدرس بها فمن حقك أن تصرخ في وجهه عاليا. #درسنى_بلغتى).
ورغم أن التدريس باللغة الفرنسية على هذا النحو فيه مكابرة وتشويش وخطر كبير على معلومات التلاميذ ومضيعة لمستقبلهم ومواهبهم بحيث لم يكن باستطاعة أغلبيتهم أن يتخرجوا كأساتذة في مواد اللغة الفرنسية – كما تأكد ذلك من قبل – فإنه يؤدي في النهاية إلى تدني نسبة النجاح عموما’ وفي الثانوية العامة على وجه الخصوص’ لأن الأسئلة والأجوبة سوف تكون محررة باللغة الفرنسية وحدها دون مساعدة من مفاتيح للفهم من اللغة العربية التي تعودوا عليها في الفصل.
وهذا يشبه تماما الواقع الحالي لبلادنا في الإدارة حيث يتم الحديث الشفهي داخل هذه الإدارة باللغات الوطنية ‘ كما يتم الحديث كذلك شفهيا بين الموظفين وبين المواطنين بنفس اللغات الوطنية ‘ لكن من المفارقات أن هذه الإدارة عندما تحرر ورقة لصالح مواطن موريتاني أو أي جهة أخرى فإنها في الغالب تقوم بكتابتها باللغة الفرنسية’ ويعكس هذا المشهد أن اللغة الفرنسية في موريتانيا بلا جذور رغم إصرار البعض على التمسك بها.
ومع ذلك فإن الاستلاب اللغوي والفكري يحرم الأمة من العلاقة الحميمة القائمة أصلا بين الإنسان ولغته ، وقد بين مصطفى صادق الرافعي هذا بقوله: “ما ذلت لغة شعب إلا ذل ، ولا انحطَّت إلا كان أمره في ذهاب وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاما ثلاثةً في عمل واحد؛ أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا، وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع “
ولما كانت اللغة الأم على هذا القدر من الأهمية جاهد المستعمر بما أوتي من قوة لفرض سيطرة لغوية على الشعوب التابعة له؛ لأن من يتنازل عن لغته يمكن أن يتنازل عن كل شيء، فيسهل استلابه.
ذلك أن اللغات حينما يغتالها المستعمر فإنها تذهب بإرث ثقافي وحضاري ضخم هو محصلة الخبرات العلمية والتقاليد الاجتماعية الخاصة بالبلد المستعمَر لغوياً.
غير أن المحظرة الموريتانية وقفت سدا منيعا في وجه الاستعمار الثقافي البغيض وما يرافقه من استلاب حضاري مقيت، وأصبحت المحاظر عموما مراكز للمقاومة بشتى الوسائل الثقافية والعسكرية والسياسية ضدّ الاستعمار الفرنسي وضد إرادته في فرض اللغة الفرنسية على المجتمع الموريتاني.
وهذا هو الذي يفسر حديث الحاكم الفرنسي لكرت حين قال: ” عالجنا مشكلة التعليم فور دخولنا موريتانيا، ولكنها مشكلة حادة، لقد وجدنا أنفسنا في مستعمرات أخرى في ساحة فارغة أمام شعوب متلهفة إلى محاكاتنا، أما موريتانيا فإن المقاومة التي ينمو نفوذها عن طريق التعليم المحظري بدت مقاومة صلبة”.
لذلك نزفها بشرى لأبناء وطننا في اليوم العالمي للغة العربية أنه مهما طال زمن التعليم الفرنسي الباهت المفروض على شعبنا ‘ واستمر الافرنكفونيون في تجنيد أتباعهم من أجل الاستلاب اللغوي والحضاري’ وعينوا لأجل ذلك مستشارا فرنسيا لوزير التهذيب’ فإن اللغة الفرنسية التي تستغيث اليوم بالمتقاعدين في بلادنا قد تمزق نسيجها دثارا وشعارا بفضل المقاومة الثقافية التي لم تتوقف مع إعلان ” الاستقلال “.
وأن الهوية الموريتانية ستبقى هوية عربية إسلامية تحلق بهذين الجناحين اللذين يحملان قيم الإسلام وعزته مع فصاحة اللسان العربي وبيانه.