رحلة إلى الوراء من يونيو 2003 إلى مارس 1981../ المرتضى محمد أشفاق
أيقظني بعض الأساتذة في وقت متأخر من تلك الليلة..انواكشوط يعيش هذه اللحظات انقلابا عسكريا..عشنا شبه عرس سياسي في ذلك السحر الجاف من ليالي حزيران، لا نعرف من ينقلب، وما يترتب على لعلعة الرصاص في المدينة المذعورة..
الموريتانيون أطفال حضارة، صبية في وعيهم المدني..لن أقول إنهم يحبون التغيير لأن التغيير قد ينفع..بل هم بداة يحبون الأحداث ويطربون لها غير واعين نتائجها..تماما كما يتسلى الأطفال بالزلازل والكوارث الطبيعية وإن فقدوا فيها الآباء..ما دمنا لا نحمل مشروعا وطنيا ولا رؤية سياسية تتعالى على ذواتنا الصغيرة ومطامحنا الضيقة..
هؤلاء هم نحن، يستخفنا الطفل، وتجمح بنا العواطف الغبية إلى سراديب المجهول…
16 مارس 1981 كنا في حصة أدب مع محمود الخضراء (فلسطيني) في الفصل 6 آداب في القاعة4
من الطابق العلوي بالثانوية العربية..
وفجأة دوى الرصاص، خيل إلينا أنه يمزق ستائر النوافذ والأبواب..خرج التلاميذ في فوضى لذيذة..في تلك اللحظات تعطلت سلطة الإدارة..وخرج الكل في ندية للفرجة على الأحداث..أذكر أننا كنا نمر بين سيارات لاندروفير الجيش المنطلقة بسرعة من المنطقة العسكرية السادسة صوب قيادة الأركان، والقصر الرئاسي..وسط قصف يتقطع ويتواصل شرق خزان المياه بجوار الحي C المحاذي للرئاسة..اتجهنا نعدو مع الرتل إلى الإذاعة، حدثونا أن العقيد أحمد سالم ولد سيدي يتجول في الإذاعة، وينتظر قراءة بيان، وأن مدير الإذاعة محمد حبيب الله ولد عبدو يماطل في الأمر..وصلنا خبر آخر يقول إن كادير في مبنى قيادة الجيش، وإنه ينفض (حراق التبغ) على رأس معاوية، ثم شاع أن معاوية غافله وقفز من النافذة فانكسرت ذراعه، غاب عنهما أن الرجل الفار من قبضة كادير سيحكم البلد في أطول فترة حكم حتى الآن..
تلاحق دوي الرصاص، شعرنا ببعض الملل والخوف، الأرض بدأت تهتز تحت أقدامنا مع دوي القذائف الكبيرة..ظللنا متلفهين، نحب أن يحدث أي شيء وأن يواصل الرصاص لعبه بالنار..ولا هدف ننشده سوى الاستهلاك المؤقت للأحداث، وانتظار المجهول مهما كانت آلامه دون اكتراث بما ستؤول إليه الأوضاع..
لم نستطع الوصول إلى مساكننا، ولجأنا إلى إحدى الأسر القريبة، وكان في المجلس شيخان، يطربان كلما تواصل القصف، ودوت الانفجارات..وإذا هدأ قليلا قال أحدهما برما(أتف، ابلا افيدهْ صَّ)..
في الغد ظهرت صور أحمد سالم ولد سيدي وكادير، وانيانك مصطفى في جريدة الشعب مصفدين، وفي تبابين قصيرة، في منظر لا يليق..
روى أحد حراس الضباط أنه في ليلة تنفيذ حكم الإعدام طلب منه انيانك مصطفى تزويده بكمية من (صندل، وعلمت)، فرأى البعض أنه ليس من الحزم تزويد محكوم عليه بالإعدام بالنار، لكن الرجل زوده بمصباح، وكان يتابعه وهو لا يشعر، فرأى بين يديه المصحف يقرأ فيه، حتى أخرج إلى عمود الإعدام..
وشهد المشرفون بشجاعة أولئك الضباط وهم يتحدثون بثقة، ويقين، وعدم اكتراث، أن حكم الإعدام سينفذ فيهم، دون تأجيل، ولا تعديل..
كانت تلك بداية رباعية هيدالة وأعوانه، رباعية النار..تحدثت سابقا بشيء من التدقيق عن تلك الحقبة البوليسية الفظيعة، التي عشت كل تفاصيلها المؤلمة، والمروعة في مدينة الرعب يومذاك: انواكشوط التي لم يهدأ فيها حجر، ولا بشر، عن ذرف الدموع، ومواصلة الأنين على معازف المواجع، وأشباح الموت الأسود المتمدد في المخافر والسجون..وألوان الشوارع الرمادية كغابات محترقة..والكلاب البشرية تتسلى بتمزيق اللحم الآدمي بوحشية، وسادية مسرفة..