لا أصدق..احتجت إلى دليل في لمدن…/ المرتضى محمد اشفاق
لا أستغرب جهلي للأجيال الصاعدة، فالتحولات العمرية مدهشة لغير الملازمين، وانتظار الدهشة يلغيها..
استكملت لمدن ما بدأته أغشوركيت منذ سنوات، حبو التحسنات المادية إلى فقرائها..فلم يعد لمدن شكلا لمدن الذي عرفته، ليس لرحيل بعض شيوخه الوقر، من أصحاب الصف الأول في المسجد، الذين جلل الشيب قياهلهم، وزينهم حسن وقار بعد جمال شبيبة، وانقطعوا لمعتكفاتهم، فلا يبرحونها إلا حين يهجعون..
وليس لأني أنكرت من الصف الأول (الثاني) وعرفت، بل لنهضة عمرانية حولت لمدن من قرية وديعة، هادئة، تستقر دورها، وأعرشتها وراء سياجات كاشفة، تحبس الحيوان، وتحرر التحايا، وتمنح الجار لذة النظر إلى جيرانه، فيتواصلون بالعيون، والإشارات اليدوية، والعبارات الأخوية، وأحيانا بالولوج لصلة أرحام طمرتها مشاغل الحياة..
تحول لمدن إلى محمية عمرانية راقية، جيدة التخطيط، منظمة الشوارع، ما زالت حربها مع الرمال الزاحفة سجالا، لكنها شبه خالية جل فصول السنة من ولد آدم..
احتجت إلى دليل يهديني إلى بعض المنازل التي كنت أحفظ كل إحداثياتها، وتفاصيلها، ومواقع زرائب الغنم، والعجول، وبعض أقفاص الدجاج فيها، فرأيتني:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
من ذنوب المدينة أن أهلها يتوارون في دور منتقبات بمداخل تحجب أبوابها، مؤتزرات بحيطان سميكة وطويلة، تصد المتسلق، والفضولي، وواصل الرحم الذي لم يتعود الاستئذان بنقرات لا تسمع على باب خلفي بعيد…
يقضي الناس في تلك المحابس الاختيارية جل أوقاتهم، فتحسب المدينة في رابعة النهار مدينة أطياف، شوارعها خالية إلا من أطفال يسترقون النظر إلى وجوههم في مرايا السيارت، يسوون عليها تسريحاتهم، ويكشرون في المرايا كأنهم يتفقدون مواقع أسنانهم، أو حمير صُبُرٍ على الكدح، عشقوا الظل، وتحسبهم يغرفونه بالمحار من أصول الجدران..
هذا الجفاء العمراني الذي طغى في المدينتين سبب رئيسي في عدم الاستقرار، فالإنسان كائن اجتماعي، يحب الحلقة، ويعشق شرب الشاي في الجماعة، وفيها يتنفس، ويثرثر. ويتحرر من هموم الحياة التي لا تزيدها ظاهرة الفردانية إلا شدة، وقسوة، وبتراكم الانطوائية، والانزواء ينفطم الناس عن بعضهم، وتنمحي فيهم شيئا فشيئا ظاهرة التواصل، والتزاور، ويتعطل الشعور بالحاجة إلى الآخر، والبحث عن المؤانسة..
خلت جل دور المدينتين في مواسم الهجرة إلى الشمال، بأبطالها الأربعة:الدراسة، والحر، والنساء، والأطفال..
لا نعلم أن كثيرا من الأمم التي تعيش الشظف، وقسوة الحياة، وشح الوسائل، يغبطوننا، ويتمنون أن يصلوا إلى ما وصلنا إليه..
ولا نعلم أن أمما كثيرة تفر إلى قارات أخرى هروبا من جحيم مهاجرنا..
نسي أهل المدينتين وما حولهما من القرى أن أطفال ولاته، وكنكوصه، وتمبدغه، وغابو يكملون مسيراتهم الدراسية في مدنهم، وينجحون في الامتحانات الوطنية…وأن عجائزها لا يبغين بها بدلا، وأن في بادية الرعاة، والمزارعين، والمنمين شيوخا لم يستظلوا في الهواجر بسقوف، ولم يتوقوا فيح الحميم بدور محصنة، لكنهم لا يعرفون ارتفاع ضغط الدم، ولا السكري، ولا أمراض الشرايين..
ونسينا أننا لم نشعر بشدة الحر، وضرره إلا عندما توفرت وسائل مكافحته، فقد اختفت بيوت الصفيح، والأعرشة المكشوفة، وتوقف إحضار الماء من الآبار البعيدة هزيعا..وانتشرت المكيفات، والثلاجات، والمساكن العازلة عن الحر، والسموم..وعمت مخازن المؤن داخل الدور، وتطور النقل تطورا مذهلا..
والمؤسف أن كثيرا من المهاجرين الكبار يرحلون بذاكرات قوية، وأرجل صحيحة، وأجساد سليمة، ويعودون بذاكرات مشوشة، وركب عليلة، وبنيات ضعيفة، وأرجل لا تستطيع حمل تلك الأجساد المضطربة، كل هذا مع زاد حاج من أدوية الأمراض المزمنة..
مواسم الهجرة حولت قرانا- كما حول فساد التعليم مدارسنا العمومية-إلى مستوطنات للبائسين، والمهمشين، والمنسيين، الذين قعدت بهم ذات اليد.. وقليل من الذين آمنوا بتفاهة دوافع الهجرة، وخطورة تسويقها بالعواطف المرتجله، وفن المحاكاة الاجتماعية الساذج، والمستورد، ليبتلعه الناس بزعانفه انبهارا، وركضا وراء مجهول لا يدرك..