هل هناك موريتانيا أخرى لا يسكنها إلا الجن؟
هناك جملة من الملاحظات التي لفتت انتباهي، وجعلتني أتساءل إن كانت هناك موريتانيا أخرى خاصة بالجن وأنها هي التي استفادت من “الإنجازات العظيمة” التي تحققت خلال السنوات التسع الأخيرة.
إن المتتبع لتصريحات داعمي الرئيس محمد ولد عبد العزيز خلال هذه السنوات التسع ـ وأنا هنا أتحدث عن داعميه من الإنس لا من الجن ـ سيكتشف بأن أهلنا في “الساحل” قد تم تهميشهم، وبأنهم لم يستفيدوا من ألانجازات العظيمة التي تحققت في السنوات التسع الأخيرة، وبأن أهلنا في “الكبلة” قد تم إقصاؤهم، وأنهم لم يجدوا حظا من هذه الإنجازات العظيمة، وبأن أهلنا في “الشرق” قد تم حرمانهم هم أيضا من هذه الإنجازات، وبأن أهلنا في “الجنوب” قد تم استثناؤهم كذلك من هذه الإنجازات العظيمة، فأين ذهبت هذه الإنجازات العظيمة التي يتحدث عنها القوم؟
دعونا نصدق القوم فيما قالوا، ودعونا نسلم جدلا بأن هناك إنجازات عظيمة قد تحققت في السنوات الأخيرة، ولكن هذا التسليم سيضعنا في ورطة حقيقية إذا ما حاولنا أن نرسم خارطة جغرافية لهذه الإنجازات. إن هذه الإنجازات العظيمة لا توجد في غرب البلاد ولا في شرقها، لا في شمالها ولا في جنوبها، ولا في وسطها، والدليل على ذلك أن أهلنا في “الساحل” غاضبون بسبب الغبن، وأن أهلنا في الشرق غاضبون بسبب التهميش، وأن أهلنا في “الكبلة” غاضبون بسبب الإقصاء، وأن أهلنا في الجنوب وفي الضفة غاضبون بسبب الحرمان. إن التسليم بتحقق إنجازات عظيمة، وغياب هذه الإنجازات عن كل جهات الوطن ليفرض علينا أن نتخيل وجود موريتانيا موازية، لا يسكنها إلا الجن، وأنها هي التي حظيت بكل هذه الإنجازات العظيمة التي تحققت في السنوات التسع الأخيرة.
هناك ملاحظة أخرى تدعم نظرية وجود موريتانيا موازية لا يسكنها إلا الجان، وبأن هذه الدولة الموازية هي التي شهدت نهضة كبيرة خلال السنوات التسع الأخيرة. إن المتتبع لزيارات الرئيس للولايات الداخلية خلال السنوات الأخيرة سيكتشف بأن كل المتدخلين الذين بث الإعلام الرسمي مداخلاتهم سواء كانوا في شرق البلاد أو في غربها، في شمالها أو جنوبها، كانوا يؤكدون دائما في بداية مداخلاتهم بأن هناك إنجازات عظيمة قد تحققت في السنوات الأخيرة، وكانوا يشكرون الرئيس على تلك الإنجازات، ولكنهم كانوا ـ وفي نفس الوقت ـ يختمون تلك المداخلات بالقول بأن مدينتهم أو قريتهم التي يزورها الرئيس تعاني من العزلة ومن العطش الشديد ومن تدني الخدمات الصحية والتعليمية ومن بطالة الشباب. وإذا ما أخذنا بالاعتبار خواتيم مداخلات المتدخلين في كل جهات البلاد فسنجد في المحصلة النهائية بأن كل مدن وقرى الوطن تعاني من العطش الشديد، ومن تردي الخدمات الصحية والتعليمية، ومن بطالة الشباب، وهذا ما يؤكده أيضا الواقع. فأين ذهبت كل هذه الانجازات العظيمة التي يتحدث عنها المتدخلون في بداية مداخلاتهم؟ مرة أخرى أجدني مضطرا إلى تخيل وجود موريتانيا موازية، لا يسكنها إلا الجن، وبأن هذه الدولة الموازية هي التي ابتلعت كل هذه الإنجازات العظيمة التي يُقال بأنها قد تحققت في السنوات التسع الأخيرة.
المؤكد بأن أغنية الإنجازات العظيمة ستتكرر كثيرا في الأيام القادمة في الخطابات التي ستلقى في المهرجانات الداعمة للتعديلات الدستورية، والتي ستشكل مجالا للتنافس الشديد بين ولايات الوطن. سينفق وجهاء كل ولاية أموالا طائلة على مهرجان ولايتهم الداعم للتعديلات الدستورية، سينفقون الأموال على هذه المهرجانات وسيتحدثون عن الإنجازات العظيمة، كما فعلوا خلال شرحهم لمضامين حوار سبتمبر 2015، وكما فعلوا خلال موسم إطلاق المبادرات المروجة للمأمورية الثالثة، ومن الراجح بأن الرئيس سيقول لهم في نهاية المطاف بأن التعديلات الدستورية قد تم إلغاؤها كما ألغيت من قبل ذلك نتائج حوار سبتمبر 2015، وكما ألغيت فكرة الترشح لمأمورية ثالثة.
لن تكون هناك أي أهمية لهذه المهرجانات العبثية الداعمة للتعديلات الدستورية سوى أنها ستساهم في شفط جيوب داعمي الرئيس، وستزيد من إرهاق ما يسمونه بالأغلبية الداعمة، وستكون تلك واحدة من الإنجازات الحقيقية للرئيس، والتي يستحق عليها الشكر من طرف معارضيه. لم تعرف موريتانيا رئيسا أرهق أغلبيته الداعمة وأضعفها مثل ما فعل الرئيس الحالي، ولم تعرف موريتانيا أغلبية داعمة أرهقت رئيسها الذي تدعمه مثل ما تفعل الأغلبية الحالية. فهل هناك اتفاق سري بين الرئيس وأغلبيته على أن كل واحد منهما عليه أن يرهق الآخر، وعليه أن يبذل في سبيل ذلك ما يمتلك من قدرات وإمكانيات؟ في بعض الأحيان يُخيَّل إلىَّ وجود مثل هذا الاتفاق السري، فبوجود مثل هذا الاتفاق السري سيكون بإمكاننا أن نفسر العلاقة المعقدة التي تربط الرئيس بأغلبيته الداعمة، فهذه العلاقة تقوم أساسا على توجيه الطعنات والطعنات المضادة. ذلكم قوس كان لابد من فتحه، وبالعودة إلى الخطابات الجهوية والعنصرية، فإنه لابد من تسجيل أربع ملاحظات في ختام هذا المقال:
الأولى :
على أهلنا في “الساحل” أن يعلموا بأن تهميشهم لا يعني مطلقا بأن هناك اهتماما أو تنمية قد حدثت في ولايات الجنوب، وعلى أهلنا في “الكبلة” أن يعلموا بأن إقصاءهم لا يعني مطلقا بأن هناك تمييزا إيجابيا لصالح الولايات الشرقية. إنه على كل الناطقين باسم جهات موريتانيا الأربع أن يعلموا بأن كل هذه الجهات تعاني من المعاناة والتهميش والإقصاء، وبأنها في المعاناة سواء. الثانية :
على أصحاب الخطابات الجهوية أن يعلموا بأنه لو جيء بحكومة صالحة من مدينة واحدة فإن الخير سيعم كل البلاد، وبأنه لو جيء بحكومة فاسدة من مدينة واحدة فإن الفساد سيعم كل البلاد، ولن تسلم منه المدينة التي ينحدر منها أولئك المفسدون. إن من يريد تنمية حقيقية في ولايته عليه أن يطالب بتعيين أصحاب الكفاءات حتى ولو كانوا من غير ولايته. وإن من يريد لولايته أن تبقى متخلفة مع غيرها من ولايات الوطن، فما عليه إلا أن يرفع شعار ضرورة تمثيل ولايته في الحكومة والوظائف السامية حتى ولو كان ذلك التمثيل من خلال تعيين مفسدي ولايته. فمن أراد أن يتأكد من صحة هذا القول فلينظر شرقا إلى الواقع البائس الذي تتخبط فيه مدينة النعمة عاصمة الولاية التي احتكرت منصب الوزير الأول خلال آخر ربع قرن، هذا إذا ما استثنينا السنوات التي شغل فيها سيدي محمد ولد بوبكر هذا المنصب، أو فلينظر شمالا إلى واقع أكجوجت التي تحسب لها الرئاسة منذ العام 2005، هذا إذا ما استثنينا ستة عشر شهرا ترأس فيها سيدي ولد الشيخ عبد الله.
الثالثة :
إن تنامي الخطاب الجهوي والشرائحي والفئوي هو من الأمور المقلقة جدا، خاصة وأنه قد بدأ ينتشر في السنوات الأخيرة داخل أوساط كنا نعتقد بأنها ستبقى بعيدة كل البعد عن أي خطاب جهوي أو شرائحي أو فئوي. إن المتتبع لما ينشر في هذه الأيام في مواقع التواصل الاجتماعي لابد وأنه سيشعر بصدمة كبيرة من تنامي وانتشار الخطاب الجهوي والشرائحي والفئوي، ليس فقط من الناحية الكمية (أي العدد الذي يتبنى هذا الخطاب)، ولكن أيضا من حيث الكيف ( أي نوعية الأشخاص الذين أصبحوا يتبنون هذا الخطاب). الرابعة:
لقد لعب النظام القائم دورا بارزا في تنامي الخطاب الجهوي والعرقي والشرائحي، ويظهر ذلك من خلال استقبال كل أصحاب الخطابات العنصرية والمتطرفة ومن مختلف الشرائح والمكونات في القصر الرئاسي، مع تهميش واضح لكل من يتبنى خطابا وطنيا جامعا.
في “موريتانيا الجديدة”، “موريتانيا المقاومة”، “موريتانيا التغيير البناء” اختفى العقلاء من أصحاب المشاريع الوطنية الكبرى، وظهر جيل جديد من “الساسة” ومن “قادة الرأي” من مختلف الشرائح والمكونات. هذا الجيل الجديد الذي طفا على سطح المشهد الوطني خلال السنوات الأخيرة لا يمكن أن نتوقع منه سوى المزيد من الخطابات العنصرية والجهوية، وذلك لأنه لا يملك إلا تلك الخطابات.
لقد أصبح لولايات الشمال ناطقا باسمها، وأصبح لكل شريحة ومكونة ناطقا باسمها، ولقد لعبت السلطة دورا بارزا في حدوث ذلك، ولكم فيما نشرته الوكالة الموريتانية للأنباء خير دليل.
في يوم 27/01/2015 نشرت الوكالة الموريتانية للأنباء خبرا تحت عنوان “رئيس الجمهورية يستقبل ممثلي مجموعة الصوننكي الموريتانية” وجاء تحت العنوان ” استقبل رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز صباح اليوم الثلاثاء بالقصر الرئاسي في نواكشوط، ممثلي مجموعة الصوننكي الموريتانية برئاسة عميد المجموعة السيد كامارا بانغورو. ”
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل