الإبادة والبيان الثلاثي واللعب في الوقت الضائع/ خالد شــحام
10 أغسطس 2024، 22:56 مساءً
عندما يخرج علينا مجرم من الفصيلة السموتريتشية العنكبوتية للدعوة إلى القتل (الأخلاقي) لــ 2 مليون فلسطيني بالتجويع ، فهذه سابقة فريدة من نوعها تستحق وقفة طويلة للتأمل والتفكر ، يعيدنا هذا التصريح إلى مراجعة تأمل طويلة حيال كل التصريحات والأفعال المشابهة في الإجرام والتي أصبح لزاما جمعها في متحف الإبادة اسرائيلي وهي تطالب بقصف غزة بقنبلة نووية او تصف أهلها بأنهم (حيوانات ) أو تطالب بقتل مائة ألف فرد من سكان غزة دفعة أولى ، أو فيديو المجرم بن زفير وهو يوزع البنادق على القطعان ذات الجدائل في دعوة صريحة للقتل والعنف ، وكما العادة لم نسمع أية مطالبات او ادانات أو مراجعات لمثل هذه الدعوات التي عرفها العالم فقط في الفترات النازية أو الفترات الظلامية من عمره ، يمكننا أن نُلحِق بالمتحف المذكور نوعا خاصا اسمه تصريحات تمديد زمن الإبادة والضحك على الضحية ، بطل هذا النوع بلا منازع هم جماعة الفصيلة الكيربية القشرية والتي أبطالها من نوع بلينكن و كيربي وسوليفان ، لقد أذهلنا بصراحة السيد كيربي بالأمس وهو يتكلم بحكمة عن ضرورة وقف الحرب والشفقة على أهل غزة وصحة الأسرى وأهمية حماية المدنيين وانتقاد الكائنات السموتريتشية ، ما الذي نفهمه من ذلك ؟ ما الذي يجري في المنطقة ؟
غزة -ضمن مقاييس المدنية ومواصفات لجان هيئة الأمم المتحدة التي وضعت تعريفا وشروطا دنيا لتوافر مقومات الحياة – تعتبر الان مدينة غير صالحة للحياة الآدمية ، حتى كلمة مدينة لم تعد صالحة هنا لأن الدمار ابتلع كل شيء ، لا توجد فيها فكرة المأوى بأقل شروطه ، لا يوجد فيها ماء صالح للشرب ، لا توجد اغذية بل مجاعة ونقص غذائي فادح تسبب في أمراض خطيرة ، لا توجد فيها شبكات صرف صحي ولا شبكة كهرباء ولا إمداد بغاز الطبخ او الوقود لذلك انتشر التلوث وتجمعت مياه الصرف الصحي وأكوام النفايات في كل مكان ، مؤسسات خدمة المجتمع تم قصفها او حرقها أو قتل أفرادها ولذلك لا توجد خدمات مدنية على الإطلاق ، المستشفيات تم حرقها وقصفها واعتقال طواقمها الطبية وقتل بعضهم و كل جريح هو مشروع شهيد قادم ، ادوية الأطفال ومغذيات الرضع غير متاحة ولا ممكنة ، أدوية السرطان والأمراض المزمنة مفقودة تماما و لا يسمح بدخولها ، نسب الإصابة بالأمراض وصلت حدودا غير مصدقة تفوقت على أشد بقع العالم تضررا وبؤسا وإصابة ، النساء يعانين معاناة رهيبة من كل الأوجه الصحية والجسدية والنفسية ، أطفال غزة في حالة يُتم ٍمتكامل ، رجال وشباب غزة تم قتل عدد هائل منهم وتم اعتقالهم بالالاف ووضعوا في شاحنات عسكرية وهم عراة وتم نقلهم إلى معسكرات التعذيب والقتل وتكسير العظام والاغتصاب الجبان ، هذا الموصوف سادتي هو الترجمة العملية لتلك الدعوات والتصريحات المذكورة أعلاه وهي ليست مزاحا ولا فراغا ، وهذا هو سادتي ما يُعرف في علم التاريخ بإسم الإبادة والدفع القسريِ نحو التهجير والتلاشي في ممرات الجغرافيا ، هذا بالضبط ما صنعه جيش المخربين والقتلة في غزة .
من أجل صناعة حدث الإبادة في عالم اليوم المُتَوج بالرقي والقوننة والمنظومات الدولية وثورة الاتصالات ، هنالك متطلبات فنية تختلف عن تلك التي تعود إلى حقبة القرون الوسطى أو حقبة اقتتال القبائل أو حقبة ما قبل القوانين الدولية ، نحتاج بداية ضحية مثالية كبيرة الحجم تحاول الخروج عن النظام الجديد لكي نجعلها عبرة لمن اعتبر ، نحتاج بعد ذلك تهمةً أو تهما قابلة للتضخيم وللتعميم على جميع أفراد العينة المستهدفة وعملية شحن وتجييش واسعة النطاق ضدها حتى يمكن إعماء البصر عن المذابح التي ستنقلها وسائل التواصل الفاضحة ، نحتاج بعدها إلى شرطة عالمية تنوب عن الكل تتمتع بمعاملات إجرامية عالية من جينات الدموية والوحشية ولديها الأسلحة اللازمة ، الشرط الأكثر اهمية هو اننا نحتاج توكيلا كبيرا خفيا متعدد الأطراف لكي يشتغل المجرم بقلب قوي ودافعية عظمى ولكي تستمر المذبحة عشرة شهور كاملة دون أي تحرك حقيقي لإيقافها ، لا يوجد أي تفسير غير ذلك سادتي يمكنه تفسير ما يحدث في غزة وتفسير صورة أشلاء الأطفال اليومية في خيام ومدارس النازحين دون أن يحرك العالم ساكنا .
الحقيقة الصحيحة هنا هي أن هنالك حلفا وَكَّلَ هؤلاء بفعل أقبح ذنوبه وأعتى جرائمه ، غزة تواجه حلفا عالميـا بشحمه ولحمه ، هو نفسه الذي تواجهه ايران ونفسه الذي يواجهه اليمن وسوريا والعراق ولبنان ، هو نفسه الذي فتك بالعراق واحتل أفغانستان ، هذا هو المذنب بكل مؤسساته ودوله وقوانينه ولم يصنع من الكيان الصهيوني قوةً عسكرية إلا لتحجيم الظاهرة العربية الإسلامية ومنع تشكل الأحزمة العربية تحت أي شرط إسلامي أو قومي منافس أو مهدد للحضارة الغربية ، وما يحدث في غزة ليس إلا تجسيدا لهذه الحقيقة و توجيه ضربة قاصمة لصعود الروح المتحدية التي نتكلم عنها ، أي قول خلافا لذلك هو انحناء قاصرعن فهم الحقيقة .
في ظل التهديد المتصاعد بتوجيه الضربات الانتقامية ضد الكيان الصهيوني في دائرة توسيعه لإعتداءاته وحملات الإبادة التي يوكل بها ، أصبح لزاما على هذا الحلف تأمين الحماية والمؤازرة وإلا فإن المستقبل في خطر ، ولذلك تتداعى طائرات الرابتور إلى المنطقة وتنشط حركة البوارج واستنفار القواعد المنتشرة ، يقفز السيد كيربي في واجهة الشاشة ليقدم رثائية السلام ويقدم البيان (الثلاثي ) المغمس بالاحتيال وحماية العدو ويتلو قصائد السلام والتهدأة وعدم التصعيد المخصصة للعرب .
إذا افترضنا بأن تلك الحقائق هي نصف الواقع فلدينا النصف الثاني الذي لا يمكن رؤيته بالوسائط التي تروج للنوع الأول ، نستحضر هنا كمثال التصريحات التي قدمها الأسبوع الماضي البروفيسور الأمريكي (جون ميرشايمر) حول رؤيته للورطة الإسرائيلية في غزة وهي دقيقة وعميقة ، إن الفاتورة التي كبدتها غزة للكيان الصهيوني أو بالأحرى لحلف الشيطان تمثل كلفة باهظة في دفتر الاستعمار ، لقد كسرت غزة نظرية الامبرياليزم المطورة عن النموذج القديم ونظرية الطوق الدائم المقيم وخرجت من الصندوق التقليدي تماما ، الخسائر المادية هنا للحلف ليست هي الأساس بل هنالك خسائرأخطر في كسر الهيبة منذ الحرب العالمية الثانية ، خسائر في إسقاط الآلهة المزيفة وكسر أصنامها التي تحكم قبضتها على المنطقة ، خسائر في ظهور حركة تمرد على القيد لأول مرة فعلت شيئا مستحيلا نظريا وتهدد كامل العرش الاستعماري لأنها ستصبح ملهمة وباعثة للحياة من جديد وفتح مشاريع تمرد أخرى متمددة .
لقد أفلتت الأمور من اليد الامريكية القائدة للحلف ، لم يتكفل القصف النووي بإبادة المقاومة بعد عشرة شهور من استخدام قذائف الموت الشامل والحصار والتجويع ، لم يتمكن الأمريكان والبريطان حتى من مجرد ردع جماعة أنصار الله الأبطال وتحييد تأثيرهم عن البحر الأحمر، لم تتمكن القواعد الأمريكية في المنطقة من إحداث فارق كبير، حتى حزب الله ، المقاومة اللبنانية المحدودة لم يعد من الممكن احتواؤها أو الضحك عليها ، لقد تحول هذا الشكل إلى كابوس حقيقي يجثم على صدر المستعمر ويعجز عن فعل شيء حياله ، طائرة مسيرة من الهدهد ( 1- 3 ) كمثال أحدثت صدمة في الجسد العسكري الجبروتي للحلف الملعون ، لكن الأخطر منها هي مسيرة يافا اليمنية التي نقلت شعار المعركة إلى أبعاد جديدة تماما في فهم العدو لما ينتظره ، التحرش بإيران تحول من لعبة استعراض إلى كابوس حقيقي وعذاب للكيان و(شعبه ) ، لقد انتقلت المنطقة من قبل 7 أكتوبر من حالة تلقي الضربات والعربدة والتجبر وتحليق طيران العدو فوق العواصم ، إلى ما بعد 7 أكتوبر حيث يتلبد العدو ساخطا في ملاجئه انتظارا لضربات مهددة وخطيرة لوجوده من أحلاف لم يكن يتخيل حجم إمكاناتها وعزيمتها بإزالته ، فكرة الكيان و(شعبه ) وأسلحته وهالة ردعه كلها دخلت الان في خانة المجهول وعدم الثقة بالبقـــاء الأزلي الموعود المدعوم من الحلف الخفـي ، جرائم العدو الفادحة لم تتسبب في ترويع أهل غزة وشعب فلسطين بل على العكس رفعت أسهم القضية الفلسطينية وكسرت التماسك الداخلي الهش للمجتمع الصهيوني وتسببت له في فضيحة أخلاقية مدوية وهو يذوق أنواعا من الضنك لم يعدهها من قبل ، الأخطر من كل ذلك أن الروح العربية والإسلامية تلوح في أفق المنطقة من تحت الرماد بسبب هذه الجرائم ووصل الأمر حدا خطيرا بدخول ايران على جبهة التصعيد ضمن الأحداث الأخيرة وهي مركز الثقل في التهديد الوجودي لهذا الكيان .
كل الحسابات السابقة محسوبة تماما في الإدارة الامريكية وحلفائها والتي توصلت إلى ان اشتعال المنطقة ليس ضمن طاقتها الآنية بسبب فشلها الداخلي والخارجي ، ومغامرات العصابة الصهيونية ستقود حتما إلى تدمير كامل لهذا الكيان ، لهذا السبب يتم الاحتيال اليوم على ايران في الوقت الضائع من شوط الانتقام الأول ومحاولة مراودتها عن كرامتها ودفاعها عن نفسها ضد المعتدين من خلال التهديد والوعيد ومحاولة تقديم بدائل مرضية تخفف من حدة الغضب الإيراني ، ولهذا السبب يأتي (البيان الثلاثي ) المرواغ .
نحن أمام نقطة فاصلة تتأتى في أيام قليلة قد تترتب عليها خيارات متشعبة ، أولها إيقاف هذا العدوان الإجرامي ووقاية للعدو من تدمير نفسه والذهاب نحو الهاوية في لعبة أكبر من حجمه ، ثانيها المضي في سيناريو التصعيد وركوب مغامرة ضرب ايران التي ستقود إلى نهاية هذا الكيان المعتدي .