نهاية محرجة..!/ عبد المنعم محمود
كان ارتباكي عميقًا عندما بلغني خبر استشهاده، في لحظة لم يكن فيها للعالم معنى سوى تلك الشؤون الصغيرة التي تحاصرني. لحظة دنيوية للغاية بالنسبة لي، حيث قررت أن أترك وظيفتي التي لازمتها لسنين، دون أن أرسم لنفسي وجهة جديدة. عقلي كان غارقًا في هموم الدنيا وتفاصيلها المرهقة، أتساءل: ماذا سأفعل غدًا؟ وهل سأتمكن من الصمود بعدما قضيت أكثر من واحد وعشرين عامًا دون أن أُحرم من الاستقرار الوظيفي؟
أتى الخبر بدايةً مشوبًا بالشك، فقلت في نفسي: لا، ليس الآن، ليس وقته. كيف تنتهي حياة رجل يحمل في قلبه قضايا كبرى، بينما أنا أنغمس في دوامة أسئلة الدنيا وهمومها الزائلة؟
ثم ظهرت الصورة التي لن تُمحى من ذاكرتي، تلك الأيقونة المشرقة في أوج مأساتها، بسترته العسكرية وسلاحه، والساعة التي كانت تلمع على يده كما لو كانت أبلغ من السلاح نفسه.
كان الرجل معروفًا بانشغاله الدائم بالوقت، كان ينظر إلى ساعته وكأنه في سباق مع الزمن الذي كان يحاربه كما يحارب أعداءه. لطالما شعر أن الوقت لا يكفي لتحقيق أحلامه، تحرير الأرض، إخراج الأسرى، وكسر القيود. لم يكن فقط رجل سلاح، بل كان رجل وقت، رجل معركة الزمن.
لقد قلب ساعات العالم وموازين المنطقة رأسًا على عقب. حتى القوى العظمى والإقليمية، لم تعد تنتظر إلا حكمه على اللحظة، فكيف بنا؟
وكأن المشهد السينمائي لم يكن دراميًا بما يكفي، ظهرت صورة أخرى، لشبح ملثم، مصاب وجريح، لكنه ما زال يجلس بثبات مهيب، قاوم حتى التفس الأخير، لتنتشر القصص عن نضاله في وجه الموت.
ثم جاء الفيديو الذي شرح لنا النهاية بوضوح قاتل. لقد نفدت ذخيرته، وخشي أعداؤه الاقتراب منه، فأرسلوا أحدث أدواتهم التكنولوجية القاتلة، ليترصدوا شبحًا ينزف، يقاتل بأقل ما يملك، بجذع شجرة كان آخر سلاحه. لكن حتى تلك الطائرة القاتلة بدت وكأنها تهابه تهاب عصاه ولا كأنها عصا موسى الذي شق بها البحر بأمر ربه.
شعرت بضيق في صدري، كأنني أنا من ينزف، وأنا أشاهد الفيديو الذي كان خصمه يبثه بنشوة الانتصار. لكنني رأيت في تلك اللحظة شيئًا مختلفًا. لم يكن انتصارًا للعدو.
كان تسجيلًا لأقوى لحظات المقاومة. ومن ضفتي الشخصية رأيته يسجل لحظة محرجة لي، محرجة في جوهرها العميق: من أنا؟ ولماذا أنشغل بتفاهات الدنيا في هذا اليوم تحديدًا؟ كيف أسمح لهموم الحياة بأن تهيمن عليّ، في حين أن هذا الرجل لم يقض حياته إلا في إزعاج هذه الدنيا كلها، حيًا وشهيدًا؟
كانت تلك لحظة، بل نهاية محرجة جدًا من زاويتنا نحن. نحن الذين هُزمنا تحت وطأة القوى الاستعمارية وأتباعها في أوطاننا، نحن الذين أُجهضت ثورتنا وربيع أعمارنا، وغُربنا عن بلادنا، ولا نعرف مكان قبرنا، بينما كنت أصف هذا الرجل جهلا مني أن عقله وتفكيره لم يخرج من نطاق رفح وخان يونس
وفي المقابل، كان اليحيى يحيا حياة النضال، يعيش ويقاتل بصلابة الثائر المتفاني، المحارب الشجاع، الذي لا يُهادن. وعندما ارتقى إلى ربه، لم ينتهِ، بل ارتفع وسما أعلى وأعلى، ليحيا أكثر مما عاش. أما نحن، فما زلنا نغرق في تفاهات هذه الدنيا الدنيئة، مشغولين بسفاسف الأمور. لقد شعرت بإحراج شديد، إحراج يتجاوز كل الكلمات.
وكما قال أحدهم، ستبقى أنت – يا يحيى – ورجالك الأبطال من حولك.. من يمسكون بجمر الوطن، تدفعون ثمن حبه في كل لحظة تذوب من أعماركم،
أما نحن، فلا يسعنا إلا أن نسأل الله المغفرة والسلامة.