تجربتي في آيرمبار../ المرتضى محمد أشفاق
بدا ضباب بوكي، وخزان مياهه، وبدأت الأكواخ تظهر، وعجائز الطلح و”تيشط” تتكئ هنا وهنالك، منبئة عن رحلة الفناء.. ثم توالت عربات الخيل بسائقيها ذوي الأطباق الضخمة على الرؤوس.. تذكرت سقوط بغداد، وذلك المشهد العسكري الشعري في مطاردة الطيارين الأمريكيين في حقول القصب، على ضفاف دجلة، بين الرصافة والكرخ..
دخلت بوكي، وحجزت في سيارة عجوز مزينة بصور أسد وأشجار..،
ركبت بيني والسائق فتاة في تمام عزها الجنسي، بضة، ناعمة الجسد، ينم مظهرها عن يسار، شعرها مكوي حتى لتكاد توى صفحة وجهك في تلألئه، نهداها جنحا إلى الرشد، وإن بدا منهما طيش، ونزق كلما توقفت السيارة توقفا مفاجئا، أو مالت عن إحدى الحفر، فشلت في الباكلوريا مرتين، أنست إليها لفرنسيتها الرقيقة الحذرة، وأنست إلي لوظيفتي وغبائها، ونشأ بيننا ود عابر..
كانت الشمس تميل قليلا إلى الغرب عندما عرجت السيارة إلى اليمين وقالت (ميمون كي):
Cest le virage de aére mbar cest en peu loin,
وغابت السيارة بين المزارع، والحفر، وأشجار “
ايزن” والأنجاد الصغيرة.
دخلنا القرية المستقرة عند سفوح الهضاب، فرأيت دور إفريقيا الضخمة، ذات السقوف الخشبية، والدخان يتصاعد من كل اتجاه، ورأيتني مسؤولا ينزل لا يدري حدود إقامته..
نظرت قبلي فرأيت أشجارا ضخمة، ومآذن جميلة، وخزانات مياه مسافرة إلى السماء، وعمارات شاهقة، فعلمت أنها ليست في بلادي، وقيل لي إنها في أرض السنغال..
وطئت قدماي أرض (آير امبار) يوم الأحد 16/11/2003 الساعة 3 ظهرا،
دخلت الحائط وكان العمدة جالسا تحت عريش له اثنتا عشرة قائمة خشبية، واستقبلني بحفاوة..ولما علم بمهمتي أرسل في المدينة مؤذنا في الناس أن مدير(كوليج) وصل..وجاء رجال القرية ذاك المساء لما شاع الخبر، جاؤوا على رؤوسهم القلانس والطرابيش، وفي أيديهم العصي المعكوفة مثل المجتمعات الشرقية قبل التحديث، وبدأ العمدة يعرفني عليهم واحدا واحدا، بالاسم والوظيفة القديمة، فجلهم قدماء أطر متوسطة، يستفيدون من حقوق المعاش..
غابت الشمس وراء أشجار السنغال، ذبح العمدة شاة جهزها بنوه، وكان في غاية، الحفاوة، والكرم.
في الصباح ركبنا إلى بابابي، ودخلنا على الحاكم وكنت ألبس ذلك اليوم دراعة نظيفة، راقية أهداها إلي صديق، لعلها كانت وراء نهضة الحاكم السريعة للسلام علي، ولما عرفه العمدة على وظيفتي سقطت من عينه، وتشاغل بقراءة “لوريزون” والسير الذاتية لأعضاء الحكومة الجديدة، وظل حديثه إلي حديثا رسميا، وعينه على الورق، وهل يستحق المدرس أن يحظى باهتمام الحكام، أو الولاة، بل هو أضيع في حضرة هؤلاء من الأيتام على مأدبة اللئام، كان يقول غير منتبه: العمل لم يبدأ، آن له أن يبدأ في استخفاف، ولا مبالاة.. الخ.
وانتهت المهمة بزيارة ثانوية بابابي الواقعة في الجانب الجنوبي الشرقي من المدينة، تكاد تبتلعها عفونة الجو، ووحشة التضاريس، وارتبك المدير عندما فاجأناه خلي البال تحيط به جموع كبيرة من الناس يعسر ان توزع عليهم الردود بانتظام.
سمعت عن آيرميار في قاموسنا السياسي عاصمة لإحدى بلدياتنا الريفية..
وما كنت أتصور أن تتجاوز علاقتي بها هذا المستوى..وليس لذلك مانع أبدا، فأنا أحب وطني كله لأن موريتانيا في شرعي جسم غير قابل للتشريح، أليس التشريح خاصا بجثث لم تعرف أسرار موتها، وأنا لا أحب أن يموت وطني، وتعبث بجسمه الغالي سكاكين المشرحين..
بعد أن استقررت وبدأ العمل يسير منظما، متعبا لأنه يقتضي خلق مؤسسة تربوية من فراغ، جاءتني وفود السلام، والعرفان بجميل لم أصنعه، جاء وفد (آيركوليره) في أربعة رجال يمثلون التشكلة الاجتماعية للقرية، تولى مدير المدرسة مهمة الترجمة، وبعد تبادل الخطب، وقد فاجأتني بلاغة القوم، وغنى حقلهم التعبري، أروني كبشا، وبعض الزاد، وقالوا إنه ضيافة متواضعة، يلتمسون مني تقبلها، فاعتذرت باني لست ضيفا، وبعد أخد ورد أقنعني العمدة أنهم لا يساومون في رفض المعروف، فطلبت منه استلامها بالنيابة عني، وجاء وفد (سنوبوسوبي) في صورك مماثلة، ثم وفد قرية (آير امبار) في نفس الصورة، وبدأت أكتشف فضيلة الكرم، وترسخ الثقافة الاسلامية في هذه المجتمعات..
حولت إلى مؤسسة لا وجود لها إلا في مذكرة تعييني، رفضها قبلي اثنان، نظرت إلى المذكرة، وتوقيعها، فتذكرت قصة خان الخليلي لنجيب محفوظ، وتذكرت البطل أحمد عاكف..
تكلفت بتعبئة آباء التلاميذ لإحضار أبنائهم الناجحين لدخول السنة الأولى، والموجهين أصلا إلى بابابى، أو بوكى لإحضارهم للتسجيل، وتنقلت مع العمدة إلى كل نقاط التوجيه المحتمل لسحبهم، والعودة بهم إلى القرية..
استعنت في التدريس بمعلميْن في المدرسة المجاورة، أحدهما يدرس الفرنسية، والآخر حاصل على البكالوريا التقنية، لتدريس الرياضيات، وأسندت ساعات العلوم لأستاذ من أهل القرية يدرس في بابابى، وأرسلت وضعية ساعاتهم المالية إلى الوزارة، وحولت إليهم المخصصات في العطلة..اقترحت حارسا، ومعلما مراقبا عاما مكلفا بالتدريس هو محمد ولد دمبه، وعاملة دعم يدوية هي السالمه كومى، ولما أبلغت المدير العام محمد الحافظ ولد الطلبة بكل الإجراءات التي اتخذت، أكد لي التزامه بتطبيقها بالصورة التي أريد، وقد وفى بعهده، فلم أغادر المؤسسة الإنشائية بعد سنة دراسية واحدة من خدمتي فيها إلا وقد سددت مستحقات من تعاقدت معهم، وأقر ترسيم من اقترحتهم…
إذا هدأ الليل. ارتفعت أصوات طلبة القرآن في محاظر (آيرمبار)، ثم تبدأ أذانات السحر، كنت أرتاد أحد المساجد المجاورة للصلاة، ثم أحضر معهم وظيفة التيجانيين..فنشأ بيني مع جماعة المسجد ود خاص..
لما أمرت التلميذات بتغطية رؤوسهن، لم يفهمن ما أريد، فصار بعضهن يحضر الخمر في حقائبهن يظنن أني أعتبرها من أدوات التلميذ، فذكرت ذلك لجماعة المسجد، وشرحت لهم وجوب تقديم الدين على العادة إذا تعارضا، فشكروني جميعا والتزموا بالضغط على بناتهم لتغطية رؤوسهن، وقد فعلوا..
منتصف مارس 2004 بعد صلاة العشاء، خرجت ودليلي من الباب الغربي، وسلكنا مساحة شاسعة من سهل شمامه المنبسط، كانت الأرض حديثة عهد بمطر غزير، وعاصفة هوجاء، جاءا في غير إبانهما، وأذاقا ضخام الشجر، ودور الزنك مرارة الغلبة، والبطش، وكنا على بعد كيلوميترين من نهر السنغال، وقد غمرت المياه الوهاد والمنخفضات، أما القمر فقد بدا في تمامه وأضعف ذلك وحشة المكان وعفن البيئة.
لما أكملنا طريق السهل، دخلنا القرية من زاوية منحرفة، وسلكنا ممرات كطرائق النمل، لا يمكن أن نمر منها إلا واحدا تلو الآخر.. وكان دليلي يتقدمني وينبهني إلى المزالق والحفر ، وقد اختفت الجهات في هذه المرحلة من الرحلة والقمر وحده ينبئني أنه فوق، وأنني على الأرض..قادنا الزقاق المتثني إلى الجامع القروي حيث يقابل بابه باب دار (ميكا)..
سلم دليلي فرد شبح تحت شجرة عملاقة من “كين” يؤنسه مذياع استنفد أقصى درجات الصوت، تبث منه RFI برامج مختلفة، رد التحية وعلى بعد 4 أمتار ينتصب عريش آوى إليه بعض أفراد أسرته.
نهض الشيخ منحنيا وأشار إلى (مطلة) ضامرة وقال لي تفضلوا “ديركتير” ونادى بناته وقال هذا المدير انهضن لتحيته، رددت على البنتين بإشراة يدوية، وجاءت إحدى أزواج (ميكا) وبدأت نشيد السلام، بإيقاعه، وفواصله، وسرعته، فجزمت انها تتقن البولارية، وانخفض الصوت، وتكررت عبارة: الحمد لله الحمد لله بسمل بسمل فأدركت أنها لحظة احتضار التحية.
(ميكا جيب جاللو) شيخ كبير، يتكلم الفرنسية كما ورثها عن المستعمر الفرنسي، ولد حوالي 1926 ودرس في (كصكص) قرية على الضفة اليسرى للنهر، عمل في سلك الشرطة السنغالية سنة 1952 ضابطا ثم مفوضا 1957 وتنقل بين (سينلوي وانجربل وداكار)، وأحيل إلى التقاعد سنة 1982 تاريخ تخرج محمد ولد حامد.
يذهب كل سبعة أشهر إلى داكار ليأخذ مرتب المعاش…حدثني حديثا شيقا عن أصولهم الشامية، ومسارهم، واستقرارهم..
زرت العقيد (جينك عمر هارونا)العضو السابق في اللجنة العسكرية للإنقاذ، والخلاص الوطني،
ولما أحضرت زوجه الشراب(ازريك) في قداح سوداء مع مغارايف صغيرة، اكتشفت أن أكله أيسر من شربه لكثافته…
حدثني (جنك عمر هارونا) عن تجربته، ومرضه في الشرق، وما لقيه من (البيظان) من حب وتقدير، وحرص على شفائه..
قلت له إني سمعت أن بعض أهل قريته غير راضين عنه، لأنه لم يمنحهم امتيازات غير مستحقة..ولم يستفيدوا من وظائفه السامية، ومن إداراته لمؤسسات ضخمة مثل سونمكس، لأن قناعته الوطنية أكبر من انتمائه الضيق..فتبسم وقال إنهم يقولون ذلك، لكنه هو لا يستطيع أن يعطي ما لا يملك..فعبرت له عن إعجابي، ودهشتي معا من هذا السلوك الوطني النظيف..
زرت الشيخ (تلمود) مؤذن المسجد المجاور، هو شيخ وقور، حسن الأخلاق، قال لي إنه أيام أحداث ٨٩ كان حرسيا في ألاك، ولم يتعرض لأي أذى لأن ما حدث قليل من شغب مراهقين لا ينتمون إلى أهل المدينة، ولم يفلحوا في إيذاء أحد بفضل السلطات والأهالي في المدينة..
لبيت دعوة من أخي جينك ممدو هادي، وكانت مناسبة للتعارف مهمة جدا..
قضيت العام الدراسي في دار العمدة (جنك ممادو عبدولاي)، وزوجه (أم انجاي)، فكانا والدين، وصديقين، ومعينين على إنجاح مهمتي هنالك..
في صباحي الأول أحضرت لي(أم انجاي) قهوة وخبزا، ولما لاحظت أني لم أصب منهما إلا يسيرا، أخذت على نفسها إعداد النشاء لأنها تزعم أنه فطور (البظان) المفضل، كل صباح قبل بداية الدوام..كانت تتكفل ببناء ناموسيتي، ولم تقبل أن أبنيها لنفسي..
أما صديقي (جنك ممادو عبدولاي) فظل مؤنسي، بأحاديثه، وتجاربه، فهو ضابط متقاعد من الدرك، يتكلم الحسانية، ويقول إن فضل ذلك يعود للمرحوم المختار ولد داداه..ففي عهده كان أطر البيظان يحولون إلى الجنوب ليعايشوا الزنوج ويتعلموا لغتهم، ويحول أطر الزنوج إلى الشمال لنفس الغاية، ومن فوائد ذلك ترسيخ الوحدة الوطنية..
فلأهل هذا البيت الكريم كل الشكر والامتنان..
سألني العمدة عن بعض الشخصيات السياسية في مقاطعة ألاك بعضهم من ألاك، وبعضهم من أغشوركيت، وبعضهم من لمدن، وبعضهم في البلد الطيب، فقلت له إنني لا تربطني بهم أية علاقة، وإني لا أنتسب إلى الأسر (الكبيرة، والمشهورة) في قبيلتي..
مرة وأنا أراقب تحضير زوجته للباسه بعد أن غسلته، وكوته، قال لي: نحن (لكور) عندنا مثل نقول فيه إن (البيظانيه والكوري) سيدخلان النار لأنهما كانا منعمين في الدنيا، أما (الكوريه والبظاني امسيكنين) فسيدخلان الجنة لشقائهما في الدنيا..
اكتشفت أن كل ما يستهلكون منتوج محلي، سوى الشاي..فالأرز، والذرة بنوعيها من مزارعهم، والسمك محلي، والنساء يقمن بهرس الحبوب بالطرق والوسائل التقليدية(المدق، والمهراس)، والطبخ، والشاي على الحطب والفحم، وكل الخدمات المنزلية تتم دون عاملة من خارج الأسرة..
لما انتهت السنة الدراسية، ذهبت إلى المسجد لتوديع جماعته، فطلبوا مني أن أجلس في صحن المسجد، وتحلقوا حولي، وقرؤوا: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)، بنية العودة إليهم..ثم وقف شيخ منهم وخاطبني قائلا: السيد المدير إنا-نظرا لأنك كذا، وكذا- قررنا أن نجمع بناتنا كلهن، فاختر واحدة منهن هدية لك….
لما حُولت، وعدت إلى (آيرمبار) لتسليم التقرير إلى خلفي، نزلت عند العمدة، ولم يكن يعلم أني تحولت، فقال لي نحن لن نقبل هذا أبدا، ثم إني كنت أعد ابنتي هذه لتتزوجها، فكيف تستطيع أن ترحل..
هذا كله من أخلاق القوم، فليست بناتهم رخيصة، ولكنه فن من الإكرام فيهم فريد..
علمتني هذه التجربة القصيرة أن مجتمع الزنوج مجتمع مدني، يؤمن بالدولة، ويخضع لقوانينها دون تعقيد، ويقدر مكانة مسؤوليها مهما كانت منحطة مثل مسؤوليتي، وهم قوم شرفاء طيبون، يكرمون الضيف، ويتعاونون على البر والتقوى وإعانة المحتاج، منضبطون في التزاماتهم، وقافون عند مواعيدهم، متدينون حقا، ومؤمنون صادقون…