رسالة إلى ولد في المنفى: لا تعد يا بني فما كان أبوك بلطجيا ولا عسكريا/علي ولد عبد الله
كما كنت تتوقع، حانت لحظة إحالة أبيك للاستفادة من حقه في التقاعد. بإمكانك أن تسمي هذه العبارة “حالة بوح مكبوح” أو أسلوب شرط أو سميها ما شئت. المهم أن تعلم أنه هنا في هذا البلد الغالي علينا، ليس في التقاعد ما يشبه الحق أو يمت بصلة إليه بل وأكثر من ذلك إن لم نقل ليس فيه ما يستحق حتى المطالبة به أو الاستفادة منه، عكسا لما عليه الحال هناك في الغرب كله وخاصة في ديار الغربة التي احتضنتك. فالتقاعد عندنا لا يمثل ميزة ولا فائدة تذكر. لذلك لا يتلقى المتقاعد في موريتانيا قرار إحالته للاستفادة من هذا الحق بارتياح لأن من سيدفع بهم في هذا الفضاء يرمون في غيابات النسيان وحتى المؤسسات التي خدمها هؤلاء المتقاعدون لسنوات عدة، تكون أول من يتسارع في التخلص منهم. فالكفاءة هنا لا تعني شيئا. والقائمون على المؤسسات والإدارات لا يميزون بين من لديهم كفاءات وخبرات وبين “الحمير” ممن لا يمتلكون نصيبا ولو ضئيلا من المعرفة. والواقع أنه كان من المفترض أن يمتلك المسئول حدا أدني من المعرفة يؤهله لتقييم مستويات المنتسبين لإدارته و هذه معايير لم يتم توخيها لدي غالبية مسؤولينا السامين الحاليين.
لا غرو إن كنت، أيها الفتى، قد حسبت أن أباك عاني من كل ذلك وإن لم يكن واهما فيما يخص احترام ضوابط العدالة و الإنصاف في البلد. كما لم يكن والدك واهما حتي ينتظر ردا للجميل من قبل الدولة ومؤسساتها لأشخاص لقاء خدمات جليلة قدموها للوطن.
أترى، يا ولدي، حال والدك اليوم بعد أن أخذت الوكالة وجريدتاها الوطنيتان منه عصارة جهد ومثابرة لسنين عدة وكأنها تبدو على عجلة من أمرها للتخلص منه.
سأكتفي بهذا القدر، على أن أزودك بتفاصيل أكثر عن هذا الموضوع في المراسلات القادمة إن كتب الله.
وعليه، لا يسعني إلا أن أحيطك علما بأن والدك لم يتلق لا من الوكالة ولا من الوزارة الوصية على الاتصال أو ما تبقى منها ولو كلمة طيبة أو كلمة شكر على الأقل في نهاية مسيرة طويلة من المثابرة.
لم يتلق أبوك من الوزيرة ولا الأمين العام ولا من المديرين بمن فيهم مدير الوكالة الموريتانية للأنباء أدنى كلمة بهذه المناسبة. ولكن لا عجب في هذا لأن غالبية هؤلاء المسئولين غرباء على القطاع وعلى المهنة، قدموا من أصقاع أخرى أو بعبارة أخرى (قذف بهم من الأعلى) و هم لا يعرفون من يفعل ما ذا في هذه الوزارة التي لم تعد وزارة للاتصال دون أن تتحول إلي قطاع آخر.
على أي حال وباختصار هذه المسألة من شأن الوزارة والنظام، و هي لا تخصك في شيء ولا تخص والدك. إن ما أريدك أن تعلم أن أباك ذهب ببساطة كما يذهب الجميع، ذهب كما ذهب ويذهب كل المنتسبين بمن فيهم عديمو الكفاءة الذين لم يبذلوا يوما جهدا في إطار العمل وكذا أولئك “العمال” الذين لا وجود لهم بدنيا أو الذين لا يحضرون أبدا إلى المكاتب إلا لاستلام رواتب لا يستحقونها.
أنظر حالة الظلم هذه، حيث تبدو الإدارة فاقدة للذاكرة، لا تميز بين من أفنوا أعمارهم في خدمتها وبين من أمضوا حياتهم يستخدمونها لمآربهم.
هكذا هي إدارتنا، لا تنتظر منها الحد الأدنى من الإنصاف و لا رد الجميل تجاه من يعتقدون أنهم تميزوا بخبرتهم وتفانيهم في العمل.
لهذه الأسباب، ما من أحد هنا في هذا البلد يولي الإدارة ما يلزم من الاحترام. و كثيرا ما نسمع “فلتذهب الإدارة إلى الجحيم” عندما تحاول تنبيهه بأن هذا التصرف أو ذاك لا يتماشى والضوابط الإدارية أو المصلحة الوطنية.
وهكذا غدا سلوك الاحتيال منهجا. و لن أذكر لك هنا سوى طرق الاحتيال الهادفة إلى تأخير تاريخ الإحالة إلى التقاعد، فوصفة إطالة العمر المهني بسيطة: تزوير أوراق الحالة المدنية حيث يتم فيها إدراج تاريخ ميلاد كاذب وكاذب جدا.
ويجدر القول هنا إن عمليات الإحصاء التي قامت بها قطاعات الوظيفة العمومية و الحالة المدنية في السنوات فرصة كانت فرصة مكنت العديد من المتحايلين من تزوير أوراقهم. و هذه عمليات تحايل معروفة لدي الجميع داخل هذه الإدارة التي تركت فيها موظفين لا يزالون في الخدمة و هم ممن تم اكتتابهم عندما كنت أنا أزال أدرس في الإعدادية. لك أن تتصور؟
هناك من يعاد تدويرهم للإبقاء عليهم في الخدمة
إضافة إلى أولئك الذين زوروا وثائق حالتهم المدنية حتى يبقوا في الحياة النشطة، هناك فئة أخرى من العمال المنتقين ليكونوا معفيين من التقاعد.هؤلاء الأشخاص هم ذوو الحظوة ممن استفادوا من الامتيازات المتمثلة في إعادة تدويرهم والاحتفاظ بهم في الخدمة بنعمة من الجنرال عبد العزيز الذي يكون أحيانا من أقربائهم وأحيانا رفيق دفعتهم. ومن بين هذه الفئة هناك من يحتاج إليه الرئيس لتثبيت حكمه أو لتأمين قواعده الخلفية عند الاقتضاء بعد مغادرته السلطة.
هكذا، ولإطالة الحياة المهنية لكبار القادة، توصل الجيش الوطني إلى وصفة الدواء الشافي التي تمنحها رتبة الجنرال ليستغلها على أوسع نطاق حيث لوحظ في السنوات الأخيرة تضخم في عدد الجنرالات و هو ما لا يبرره الحجم الحقيقي للجيش الوطني ولا المستوى الأكاديمي لضباطنا البواسل.
وهكذا مكنت وصفة إعادة التدوير الانتقائي من الإبقاء اليوم على عدد من كبار السن على رأس مؤسسات عمومية وطنية وكذا من تراكم رتب عالية جدا أحيانا لدي جنرالات و هو ما لا تبررها سوى إرادة القائد وحده في تمديد الحياة المهنية للضباط السامين.
لقد بات التقاعد انتقائيا، مثل أي شيء آخر بمنطقة ينعدم فيها القانون، إن لم يكن محصورا فقط على أولئك الذين ليس لديهم منفذ إلى القصر ولا يتمتعون بمكافأة من القائد. ومهما يكن، هذه مسألة يمكن أن نعرج عليها لاحقا مع ذكر الأسماء، و كما تعلم، إن ذلك أسلوب لن ألجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى.
وإذا كنت أطلعتك على كل هذه التفاصيل، فقد وددت أن تعرف ما يلي:
ـ أن الإدارة لئيمة، ناكرة للجميل
ـ وأن الإنصاف هي الغائب الكبير
ـ وأن المثابرة لتأمين السير الجيد للخدمة العمومية إنما هي مضيعة للوقت،
ـ و أن الإدارة تعير اهتماما أكبر لمن يستخدموها، لا لمن يخدموها.
تصور أن والدك الذي أحيانا ما يقضي الليالي بكاملها في قاعات التحرير وورشات المطبعة لم يتم حتى اقتراحه للتوشح كما جرت العادة بالنسبة لغالبية الوكلاء المستفيدين من حقهم في التقاعد.
وبطبيعة الحال أنت تدرك تماما أنني لا أأسف على عدم توشيحي لأني شخصيا لا أجد في ذلك ذرة من الشرف، بل أفضل أن لا يدرج اسمي في لائحة من الموظفين عديمي الكفاءة غير أني كنت أعتقد ببساطة أن لسفالة الإدارة وعجزها وجحودها حدودا.
وحتى لا آخذ الكثير من وقتك، أردت فقط اطلاعك على بعض الحقائق لتتفادى العديد من النكسات التي عانى منها أولئك الذين عادوا إلى الوطن للإقامة به من جديد. لذلك أوصيك بأن لا تعود إلى بلدك إلا لقضاء عطلة محدودة. لا تعد أبدا للإقامة أو العمل هنا. عليك أن تتفادى بأي ثمن أن تخدم في هذا البلد الذي لن تجني منه سوى الإحباط
وما دام لم يحدث تغيير حقيقي في موريتانيا، لن يتم تقييمك وفق معارفك ولا لمهاراتك بل ستجد نفسك عرضة لبلطجة مقززة خلفت قبلك العديد من الضحايا في صفوف أطر هذا البلد.
وإن كنت تريد أن تظل شخصا مستقيما منسجما مع ذاتك ومبادئك وقيمك الأخلاقية، وإذا كنت، مثل ذويك، لا يمكنك لأي غرض كان أن تتملق، فاحرص على أن تنهي دراساتك حيث أنت وتستكمل إجراءات التجنيس في بلد إقامتك حيث يسري القانون على الجميع دون تمييز.
لقد صرت ناضجا لتستوعب كل هذه الأشياء وتنظم نفسك حتى لا تعود إلى بلدك إلا لقضاء عطلة محدودة. هذه وصيتي لك ، أؤكد عليها لأنني على يقين من أن البلد في هذا الزمن الذي نعيشه لا يمكن أن يزدهر فيه ويتغلب فيه على عاديات الزمن إلا من يقتاتون على النذالة والخساسة أو البلطجة أو البعض من رجال العساكر المختارين أو الاثنين معا.
عليك أيضا أن لا تقلق على مكتبتك الصغيرة ومكتبة أخيك فما زلت هنا لألقي عليهما نظرة كل يوم بعد ان غدوت متفرغا وما من شيء يشغلني.
علي ولد عبد الله- صحفي