قرأتُ كتاب خيانة المثقفين للفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا… / كبرياء رجل

قرأتُ كتاب خيانة المثقفين للفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا، لا بعين القارئ الباحث عن المعرفة، بل بعين الإنسان الذي يبحث عن المعنى وسط ركام التزييف.
هو كتاب لا يُقرأ للمتعة، بل يُبتلع كجرعة مرة من الوعي المصفّى؛ صادمٌ في وضوحه، جارحٌ في صدقه، صاعقٌ في راهنيّته رغم أنه كُتب قبل ما يقارب قرنًا من الزمان.
بيندا لم يكتب نصًا ضد المثقفين، بل كتب نصًا من أجلهم، من أجل صورتهم النقية التي شوهها التواطؤ والانخراط الأيديولوجي والتوظيف السياسي.
هو لا يُدين الذكاء، بل يُدين استثماره في غير موضعه؛ حين يُستخدم العقل لتبرير القهر، والفكر لتسويغ الانحطاط، والموقف لتزيين الجريمة.
لقد قرأت في هذا الكتاب مرثية كاملة لدور المثقف في العصر الحديث؛ مرثية لموت الضمير حين يقايض الحقيقة بالمصلحة، ولموت العقل حين يُحوَّل إلى جهاز علاقات عامة لدى الطغاة، ولموت الرسالة حين يُمسخ حاملها إلى تابعٍ يتحدث بلغة السلطة ويتنفس برئتها.
بيندا يُعرّي المثقف المتورط، الذي استبدل سعيه إلى الحقيقة برغبةٍ في التأثير، واختار السلطة لا لأنها مقنعة، بل لأنها نافذة.
إنه ذلك النوع من الخيانة الذي لا يُرتكب بمدافع أو بنادق، بل يُرتكب في المجلات الثقافية، على المنصات، وفي صالونات الفكر حين تتحول منابر النقد إلى ساحات تبرير، ويتحول النقاش من بحث عن المعنى إلى مرافعة باسم الأقوى.
ما كان بيندا ليكتب خيانة المثقفين لو لم يكن يرى في المثقف دورًا مقدسًا: أن يكون ضميرًا، لا تابعًا؛ شاهدًا لا شريكًا؛ صوتًا لا صدى.
ولذلك فإن صدمته ليست فقط في سقوط المثقف، بل في اختياره السقوط، في تنكره الطوعي لمهمته الأصلية، في تحوله إلى مؤمن أيديولوجي لا عقل ناقد، وإلى صانع رأي عام لا حارس للمعنى.
الخيانة التي يتحدث عنها بيندا ليست خيانة موقف سياسي، بل خيانة للعقل كقيمة، وللحقيقة كهدف، وللإنسان كغاية.
إنها خيانة تمتد من الفرد إلى المؤسسة، من المقالة إلى المناهج، من القلم إلى المنبر، وتُنتج ثقافة زائفة تنمو على أنقاض الصمت والتواطؤ.
وأنا أطوي الكتاب، بدا لي أن بيندا لم يكن يتحدث عن أوروبا ما بين الحربين فقط، بل عن كل زمنٍ قرر فيه المثقف أن يُطفئ مصباحه ويتلحف بلون السلطان.
ولم أملك إلا أن أسأل نفسي، وأنا أغلق الغلاف الأخير:
هل نحن نعيش اليوم ذروة تلك الخيانة؟
وهل ما تبقى من النخبة إلا صدى لذلك السقوط الذي تنبأ به بيندا؟
وإذا كان المثقف اليوم لا يكذب، فلماذا يسكت؟ وإذا لم يبع، فلماذا يجمّل؟ وإذا لم يخن، فلماذا يبرر؟
إن خيانة المثقفين ليست كتابًا يُقرأ، بل تهمة يُواجه بها كل من تصدّر المشهد ولم يحمِ الحقيقة.
وهو لا يطالب المثقف بالبطولة، بل بالنزاهة.
لا بالثورة، بل بالشهادة للحقيقة.
لا بالعداء للسلطة، بل بالولاء للقيم التي تبرر وجوده كمثقف أصلًا.
كامل الود،
لمن لا يزال يحتفظ بمصباحه في زمن العتمة.
المصدر: الفيسبوك – صفحة كبرياء رجل.