العلوم والآداب.. الترابط والتكامل/ محمد الامين الناتي
لعلَّ من البادي لمُتابِع هذه الوقفات، أنْ يُدرك أنَّنِي أحسب من نافلة القول أنَّ أيَّ تخطيط سليم للتربية والتعليم لا بد أن يكون مُنْطلِقا من رؤية شاملة، ومُراعيا التكامل بين حاجات الإنسان وأبعاده جميعا؛ وذلك ما لا يتَكفَّل به إلا أنساق متكاملة من المعارف والخبرات تتشابك فيها علوم الإنسان والعلوم البحتة؛ لتتحدد الأهداف، وترسم السبل، وتذلَّل صعوبات البيئة، ويخضع الواقع بمختلف تحدياته، ويَتَهيَّأ الوسط بمُواءمة الإنسان بين المتعارضات، والتوافق بين المتقابلات؛ لينتظم في الإنجاز، ويتساوق الأداء، بإضافة خبرة إلى خبرة، وقوانين إلى أخرى، واستِجْلاء العلائق، وتعزيزها ما بين الظواهر بعضها وبعض.
بهذه الخبرة التراكمية، يظل النشاط الدؤوب، درَجًا في مراقي التطور، والسعي المُتَلهِّف نحو غد فيه من شروط الطمْأَنة، ما يوافق أنه خُلِق هَلُوعا؛ مُحِبّا للخير كارها الشرَّ، وإن تداخل الاثنان في المجهول، لعجْز هو راغبٌ عنْه؛ وقوة يسعى لامتلاكها، مُتوجِّسا في نفسه خيفة من مُنْتَهاها؛ وإن كان مُدْرِكا علْمَ اليقين أن لا خير في المجهول، ما لم يكن مداه أَنْسَنةَ الأشياء؛ وليس تشييء الإنسان. ولولا هذا الهاجس الإنساني، لكان مبتغاه في ضمان الوفرة المادية، وكيفما كان السبيل إلي تحقيقها، وبأي شروط كان ذلك الضمان. ولعل هذا الهم الحضاري الكوني هو ما يحول دون المَكْنَنَة المطلقة؛ حتى لا يظن قاصر نظر أن الآلة يمكن أن تحل محل الإنسان.
مُسوِّغ إثاراتٍ من هذا القبيل ناشئ عن السياق الوطني، وهو في المستوى الكوني بات في حكم المتجاوَز، بعد الحسم بخطَلِه في فلسفة العلوم (الإبستمولوجيا)؛ وتاريخ البشرية يُسفِّه الخائضين فيه؛ وقد بَيَّنتُ ـ من قبل ـ أن اللحظات الفارقة التي مهَّدت لعهود هي الأكثر نماء، وهي أعظم في الإنجاز البشري، قد تكفَّلت موجهاتٌ روحية، ومُحفِّزاتٌ أخلاقية في دفع الإنسان إلى الانخراط فيها؛ وأمثلة ذلك صارخة في العهد الإغريقي، وفي بعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ برسالة التوحيد المُرسِّخة أعلى قيم الإنسانية؛ ثم ما نقلت به فلسفة الأنوار أوروبا من دياجي الجهل والتخلف، إلى ازدهار العلوم وتطوُّر المعارف.
ولا يضير الآداب في شيء أن يُضاق بها ذَرْعا، أو أن تُحمَّل مسؤولية العجز والوقوف في وجه جودة التعليم؛ كما لا يضمن تخلفها أن تتبع سياسة رشيدة لتحسين تدريس العلوم والرياضيات؛ لأن أي مسعى جاد، موصل إلى نتيجة في هذا المضمار، سيكون نفعه الآدابَ سابقا ولاحقا، كره من كره ورضي من رضي. آية ذلك بيَّنتْها الفترات المضيئة في تاريخنا العربي؛ حين كان سيف الدولة الحمداني يغزو الروم مرتين كل سنة، مُنافحا عن بيضة العروبة والإسلام، وكان يحيا في كنفه كلٌّ من الفارابي وابن خالويه والمتنبي إلى جِلَّة العلماء المُسْهمين بعطائهم الثَّرِّ في الرياضيات وفي الطب والفلك، ومختلف المعارف والعلوم؛ وهو الفضاء الذي نشأ فيه الكندي وابن سيناء؛ ومن نافلة التذكير أن هؤلاء الذين نشَّأَتْهم البيئةُ ذاتُها، كان ذوو الإسهام العلمي منهم أدباء؛ كما كان العلماء منهم ذوي كعب عال في الأدب.
فلا يخافن غيور على الأدب، ولا يفرحن ضائقٌ به ذَرْعًا من أي مسعى لترقية العلوم، ومحاولة النهوض بها؛ فهي ـ إذا كانت إرادة صادقة ومسعى جادًّا ـ عين خدمة الأدب وضمان عافيته وحسن حاله.
ولي نية المواصلة في خُطَى هذه الوقفة ـ بحول الله وقوته ـ في الأسبوع القادم.
74 تعليقات