موريتانيا وصراع الوجود حين تتحول القيم إلى رماد / قاسم صالح

إن الأمم لا تبنى بالثروة ولا بالسلاح، بل بالضمير الحي الذي يحمل هم الناس ويصون كرامتهم.— جمال عبد الناصر.
نعم تواجه موريتانيا اليوم أزمة وجودية تتجاوز حدود السياسة والاقتصاد، لتضرب في عمق الوعي والضمير الإنساني. ليست المشكلة في ضعف الموارد أو هشاشة المؤسسات فحسب، بل في تآكل منظومة القيم التي كانت تشكل أساس المجتمع الموريتاني عبر قرون من الصبر والزهد والكرامة.
لقد أصبح الخطر الحقيقي كامنا في الإنسان ذاته، حين فقد توازنه الأخلاقي وتخلى عن مرجعياته الروحية، فصار يعيش داخل دائرة مغلقة من الأنانية والانتهازية واللامسؤولية.
هنا تحولت السياسة من أداة لتصحيح الواقع وبناء العدالة إلى وسيلة للترقي الشخصي واحتكار النفوذ.
فالمبادئ التي كانت تلهم رجال الفكر والنضال تراجعت أمام موجات المصلحة والانتهازية.
السياسة التي بلا مبادئ تولد زعامات بلا رؤية، وأحزابا بلا مشروع، ودولة بلا روح. ومن هنا بدأت أزمة الثقة بين المواطن والنظام السياسي، حتى صار الناس يرون في العمل العام مغنما لا تكليفا.
ففي مجتمع يعاني من تفاوت طبقي صارخ، أصبحت الثروة غالبا نتاج قربٍ من السلطة لا من الجهد. وتلك الثروة بلا عمل ولدت فسادا يقتل روح المبادرة ويهمش الكفاءات.
وفي المقابل، تنامت ثقافة الاستهلاك واللهو، حيث المتعة بلا ضمير صارت فلسفة حياة عند بعض النخب، فانهارت قيم التضامن والعفة والمسؤولية الاجتماعية.
وحين تنفصل المعرفة عن القيم تتحول إلى أداة للتبرير لا للتنوير.
فالتعليم رغم انتشاره، ما زال يفتقد الرؤية الأخلاقية التي تربط العلم بالواجب الوطني.
أما العلم بلا إنسانية، فهو علم لا يخدم الإنسان بل يستغله؛ علم ينتج شهادات لا وعيا، ومراكز لا فكرا. وهنا تتجلى مأساة مجتمعٍ يحفظ النصوص وينسى المضمون.
في الأسواق كما في المعاملات، أصبح الغش والاحتكار والتلاعب بالأسعار ظواهر مألوفة.
التجارة بلا أخلاق تفقد معناها حين يختزل الربح في استغلال الضعفاء.
أما العبادة بلا تضحية، فهي طقس بلا روح، تمارس شكلا وتفرغ مضمونا. فحين تغيب التضحية في سبيل الحق، تتحول العبادة إلى عادة لا تبني مجتمعا ولا تصنع إنسانا جديدا.
ما يدمر الإنسان اليوم في بلدنا موريتانيا ليس العدو الخارجي، بل -الفايت- الداخلي اي تراكم العادات السيئة، التطبيع مع الفساد، والتبرير باسم الدين أو القبيلة أو المصلحة.
هذا -الفايت- هو أخطر أشكال الاستعمار، لأنه يقتل من الداخل، ويحول الحرية إلى وهم، والوطن إلى غنيمة.
إن مواجهة هذا التاكل تتطلب ثورة وعي تعيد للإنسان ذاته المفقودة، وتحيي روح التضحية التي بها تبنى الأمم.
لقد أدرك جمال عبد الناصر منذ منتصف القرن العشرين أن معركة الأمة ليست مع الاستعمار وحده، بل مع الانحطاط الداخلي الذي يصيب القيم حين تستبدل بالمصالح، ويستعاض عن المبدأ بالمنفعة.
فالأمة التي تفقد بوصلتها الأخلاقية تفقد قدرتها على المقاومة والبناء.
إن ما تعيشه موريتانيا اليوم هو صورة مصغرة لذلك الصراع التاريخي بين التحرر والتبعية، الكرامة والاستسلام، الوعي والغفلة.
ولذلك فإن بعث الإنسان الموريتاني الجديد لا يتم إلا عبر مشروع وطني ذي مضمون قومي، يعيد الاعتبار للفكر، وللعمل، وللقيمة الإنسانية كجوهر للسياسة والدين معا.
الفكر الناصري حين دعا إلى (العدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية والوحدة العربية) لم يكن يقدم شعارات، بل مشروعا أخلاقيا وإنسانيا يعيد للسياسة معناها النبيل أن تكون في خدمة الإنسان لا في استعباده.
ومن هنا، فإن الخروج من دوامة (الفايتات) لا يكون إلا بإحياء الوعي الجمعي، وبناء ثقافة جديدة قوامها العدل، والكرامة، والتضحية، تعيد للمواطن الموريتاني ثقته بنفسه، ووطنه، وأمته.
إن موريتانيا، وهي تقف اليوم على مفترق الطرق، تحتاج إلى ثورة فكرية وأخلاقية تستمد روحها من التاريخ العروبي والإرث الإسلامي، ومن التجربة الناصرية في بناء الإنسان قبل الدولة.
فحين تستعيد الأمة بوصلتها الأخلاقية، يصبح الوطن ممكنا من جديد، وتتحول معركة الوجود إلى مشروع تقدمي، لا للبقاء فقط، بل لنهضة الإنسان الموريتاني الحر الذي يحمل في داخله معنى الأمة ووعيها ومصيرها.
قاسم صالح.

