فقه الذرائع بين حماية الحق وإعنات الخلق
شكل سد الذرائع إلى المحرم قاعدة من أهم القواعد التي تشكل سورا حاميا للحق الممثل في شرع الله، وله أدلة إجمالية لا مطعن فيها ومن الناس من يتفنن في سبل الوصول ‘لى المحرم فيكون سد الذرائع آلية مناسبة لصده ومحاصرته، غير أن المتأخرين بالغوا في التعسف في استغالال هذا الدليل حتى إنه أضحى من سائغ القول أنه لم يضر بحيوية فكر الأمة وتقدمها وانفتاحها شيء مثل ما أضر سد الذرائع فقد كان المستند الذي يأوي إليه المتحجرون في استسهال التحريم فكاد يسدوان على الناس كل مناحي الحياة، إذ قل في الدنيا شيء لا يمكن أن يمتطى إلى الحرام، وإذا كان مجرد إمكانية التوصيل إلى الحرام تحرم لم يسلم من ذلك أمر.
والحقيقة أن هذا المنهج حائد عن الصواب وهو مسلك تنطع منبعه ضعف القدرة المتبصرة على تقدير المصالح والمفاسد وورع أشبه بورع الجهال يكفيك في رده أنه مخالف لنصوص السنة ومنهج الصحابة فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه، أما نحن فمنذ زمن الأبي قررنا أن نترك الصلاة بالنعال لئلا يخطئ الغبي وفي الصحيحين أن سلمان زار أخاه أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا وفي الصحيح أيضا أن أبا السنابل بن بعكك دخل على سبيعة الأسلمية وقد تجملت للخطاب فقال لها: ما لي أراك متجملة ؟ لعلك ترجين النكاح. إنك، والله ! ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر و عشر.إلى آخر القصة وفي البخاري أنه لما “عرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فما صنع لهم طعاما ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد” وهذه أمور أكاد أجزم اليوم أن كثيرا ممن يفتي لا يتصور صدور مثل هذا إلا من متحلل فاسق. كذلك فإنه لم تزل زارعة العنب في بلاد المسلمين رغم وجود من يتخذها خمرا، غير أن فكر العلماء كان سليما خاليا من سوء الظن مقدرا لطبيعة الحياة التي لا يتمخض فيها الخير كما لا يتمحض فيها الشر.
تذكرت هذا الأمر وأنا أتابع بعص الناس يتحدث عن خطر الوسائط الحديثة مومئا أو مهيئا الساحة إلى حظرها، والحقيقة أن في هذه الوسائط من الفوائد والمنفعة ما لا يقل عما فيها من الشر ففضلا عن تسهيل صلة الرحم والتعاون على الخير وتيسير سبل العلم هي أهم وسية اليوم لمحاربة الظلم والظالمين، ولقد بين العلماء ضوابط سد الذرائع وكان القرافي من خير من أفاض في ذلك في فروقه وخلاصة كلامه أن الذرائع ثلاثة أقسام قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه كحفر الآبار في طرق المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلاكهم وكذلك إلقاء السم في أطعمتهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى عند سبها (يعني الوسيلة المؤدية إلى الحرام غالبا) وقسم أجمعت الأمة على عدم منعه وأنه ذريعة لا تسد ووسيلة لا تحسم كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر فإنه لم يقل به أحد وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنى (يعني الذريعة التي يندر أن توصل إلى محرم أو لا مناص منها) .
وقسم اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا ؟ كبيوع الآجال عندنا كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر فمالك يقول : إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسلا بإظهار صورة البيع لذلك والشافعي يقول ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز ذلك وهذه البيوع يقال إنها تصل إلى ألف مسألة اختص بها مالك وخالفه فيها الشافعي وكذلك اختلف في النظر إلى النساء هل يحرم ؛ لأنه يؤدي إلى الزنى أو لا يحرم والحكم بالعلم هل يحرم ؛ لأنهوسيلة للقضاء بالباطل من القضاة السوء أو لا يحرم وكذلك اختلف في تضمين الصناع ؛ لأنهم يؤثرون في السلع بصنعتهم فتتغير السلع فلا يعرفها ربها إذا بيعت فيضمنون سدا لذريعة الأخذ أم لا يضمنون ؛ لأنهم أجراء وأصل الإجارة على الأمانة قولان،
والعلم عند الله تعالى.
محمدن الرباني- من صفحته على الفيسبوك
2 تعليقات