لماذا لم يكتب عرب بني حسان الشعر بالفصحى؟
كم هو مشكل ومعضل وغريب، أن يكون “العرب” من بني حسان ـ ويزعم البعض أنهم من نشر اللغة العربية الفصحى هنا ـ لا نصيب لهم يعد من فصيح الشعر العربي، إلا إن كان النزر النادر؛ فلا يروى لهم بيت ولا شطر في أي من بحور الخليل، إلا لمن منهم “استزوى” وتخلى عن “حسانيته”!
وإنما برعوا في الشعر الحساني “لغن” وأغراضه الموسيقية ، وأتوا في كل ذلك بأدب راق مفعم بالمعاني والجمال والكمال، مع أن الحسانية إنما هي بنت لسان عربي مبين!
وفي المقابل، شاركهم الزوايا من “العرب” و”البربر” قول الشعر الحساني ومعرفة فنونه ومنازل الموسيقى الحاضنة له بنفس المستوى.
فما هو تفسير هذه الظاهرة، التي لا شك ستوجد فيها، عند البحث الدقيق، استثناءات لا تغير من غلبة هذا التناقض التاريخي!
ربما نجد في هذا التوزيع الاجتماعي ـ “المائل” ـ للأدب، وتصديقا له، فخر محمد ولد ابنو الذي ـ كما مر ـ هو القائل:
ﮔـولُ لَهْل المَوْزُونْ أنَّ * جُلْ اغنَانَ عاد امعان
مَلَكُوتْ المَوْزُونْ أنَّ * مَا مَشْتَرْكُ حَدْ امْعَانَ
نجده مع ذلك ربما يستخف بـ “لغن”، من خلال التقليل من شأن اللهجة الحسانية نفسها، ويحصر التحدي في الشعر العربي الفصيح، وكأنه يوافق على اختصاص “الزوايا” بـه، ويستسهل حوك الشعر الحساني. فيقول متحديا أحدهم:
لُغَى حسَّــان لم تك للنبيــه * بلائقــةٍ ولم تكُ تَطَّبيهِ
فحيَ علي القريض فانَّ فيه * مجالا للـــزوايا تقتفيهِ
لقد درج بعض المتقدمين على تقسيم الأدب حسب التمايز الاجتماعي، الذي يصعب إثبات أصل موضوعي له هو نفسه! فقالوا القصيدة العربية الفصيحة من اختصاص الزوايا، و”الطلعة” المطربة من اختصاص “العرب”!
وأين العرب بدون عربية؟!
وأنبِنت على هذا التقسيم، أو ربما كانت له أصلا، العلاقة الوثيقة بين المطربين “إيـﮔـاون” وبين العرب الحسانيين، وهي العلاقة التي اتجهت إلى تلازم هناك، مقابل فراق وتنافر بين “المطربين” والزوايا، حتى شاع المثل السائر: “لمرابط ماه صاحب إيـﮔيو”، رغم أن هذا الأخير يشدو أيضا بالشعر العربي الفصيح، والأول يبدع أيضا “الـﮔيفان”.
ويُروى تعليق طريف منسوب للفنان الكبير والفتى الأديب الأريب المختار ولد الميداح وهو: أن “لمَّابِ بَعدْ (عن لصحبة)ألا لمرابط”!.
وهذا التعليق يحمل نفس النقد والاستغراب لهذا التموضع الاجتماعي للفنانين.
ومرة أخرى توجد استثناءات في كل ذلك.
وفي الأخير فإن هذه الاستشكالات لا تخرج عن إطار التطلع البحثي لتاريخ اجتماعي ديناميكي سريع التطور والتشكل؛ ولكن حال رتابة وبساطة الحياة البدوية المشتركة، يُعد “مضخما” مضللا لعامل الزمن في هذه الربوع؛ حيث تُنسَى الأحداث وتشيخ التطورات الكبيرة بسرعة مذهلة… وهي ملامح ورثناها اليوم!!
محمد محفوظأحمد
103 تعليقات