“الاستعلاء” العربي والعلاقة المتردية مع فرنسا والضغط الأميركي عناصر دفعت بولد الطايع إلى إسرائيل عكسا لإرادة شعب يسمى سفارتها “البيت الأجرب”..
نواكشوط – من الشيخ بكاي- (أرشيف)-لماذا اختار الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيد احمد الطايع، أن يواجه الرأي العام في بلده، وفي العالم العربي، على رغم رضوخ غيره من “المطبعين” لارادة رأيهم العام ولو موقتاً؟ لماذا يمنح معارضيه فرصة الحديث باسم شارع لا يمثلونه في الواقع؟ لماذا يعرض بلده لتوترات أمنية وسياسية هو في غنى عنها؟ هل هي خطوة مدروسة أملتها المصالح العليا للبلد؟ أم لدى الرجل أسباب أخرى لهذا التشبث باسرائيل؟
مثل معظم العواصم العربية شهدت العاصمة الموريتانية نواكشوط منذ الأيام الأولى للانتفاضة الفلسطينية سلسلة من التظاهرات الاحتجاجية شارك فيها الحزب الحاكم، الذي نظم أكبر تلك التظاهرات. وفشل بعض القياديين في الحزب – الذين حاولوا رفع شعارات “السلام” إلى جانب التعاطف مع الفلسطينيين – في السيطرة على المتظاهرين. فمرت المسيرة مثل غيرها معادية للاسرائيليين ولسلامهم “الأحمر”. وإلى هنا ظلت الأمور طبيعية. غير أن تعليقاً بثته وكالة الأنباء الرسمية وكرره التلفزيون الحكومي أجج مشاعر الغضب، وأصاب أنصار النظام خصوصاً بخيبة أمل كبيرة. وانتقد التعليق بشدة، في معرض الحديث عن الوضع في فلسطين، من وصفهم بالمزايدين. وقال، ضمناً، إن موريتانيا لن تحذو حذو دول عربية قطعت علاقاتها مع اسرائيل. وهذا ما كرره، بوضوح، وزير الاعلام الرشيد ولد صالح في مناسبات مختلفة بعد مؤتمري القمة: العربية والاسلامية. ومن هنا اتخذت الأحداث منحى جديداً حين امتزج الفعل التضامني مع الشعب الفلسطيني باستنكار موقف السلطة. ووجدت أحزاب المعارضة في غليان الشارع وفي التناقض الواضح بين مشاعره وتوجهات نظام الحكم فرصة للتشهير بهذا النظام. وقيادة التيار الاحتجاجي العفوي العارم، في المؤسسات التربوية، وفي الشوارع… وحتى داخل البيوت.
النظام بدوره وجد في الأحداث ما اعتقد أنه فرصة للتخلص من ألد أعدائه: “اتحاد القوى الديموقراطية” وهو تجمع المعارضة الرئيسي. فعمد إلى حله بتهمه “التحريض على العنف”، واعتماد خطاب “يضر بمصالح البلد”. لكن متابعي الشأن الموريتاني رأوا خطأ في حسابات النظام. فهو من جهة أعطى خصومه شرف المسؤولية عن الرفض الشعبي العفوي للعلاقات مع اسرائيل: ومن جهة ثانية أمد “اتحاد القوى” بقدر كبير من التعاطف محلياً ودولياً. وهما أمران ما كانا ليحدثا لو لم يتم حل الحزب في هذا الظرف بالذات. إذ معروف أن “اتحاد القوى الديموقراطية” على رغم أنه أكثر الأحزاب الموريتانية المعارضة حضوراً لا يشغل في الحقيقة الحيز الذي يبدو الآن أنه يشغله. فهو في أفضل الحالات جماعة سياسية لا تستطيع القيام بأكثر من إصدار بيان ينتقد النظام، أو تنظيم مهرجان تلقى فيه كلمات حادة يمجها ذوق الموريتاني. وظل الحزب منذ تأسس العام 1991، وقبل أن تنشق عنه ثلاثة أجنحة شكلت أحزاباً خاصة بها، عاجزاً عن التأثير الفعلي في الشارع.
“اتحاد القوى” فوق هذا لم يكن قط حزباً قومياً. واقترن في سنواته الأولى بالدفاع عن أكثر الشعارات تطرفاً ضد التوجهات العروبية في البلد. وإن كان انضمام أفراد ناصريين منشقين عن حزب السلطة أحدث في العامين الماضيين تغييراً في خطابه. ومع هذا يعتبر الآن في مقدم الاجماع الشعبي على رفض العلاقة مع اسرائيل.
ويبقى السؤال: لماذا قدم النظام كل هذه التضحيات في سبيل علاقة مع دولة عدوة لا توجد مصالح ملموسة للبلد معها؟
في الواقع لا يحيل سجل الرئيس الطايع إلى علاقات مشبوهة مع اسرائيل. كما لا توجد في تاريخ الرجل مواقف انعزالية أو معادية للعروبة. بل على العكس من ذلك جعل ولد الطايع من هوية موريتانيا العربية ركيزة أساسية لسياساته منذ وصوله السلطة عام 1984. فرض التعريب في الادارة. ووضع حداً لشعار “همزة الوصل” بين افريقيا والعالم العربي الذي رفعه سلفه المختار ولد داداه. وحدد بوضوح انتماء موريتانيا لأمتها العربية. كما ظلت القضية الفلسطينية في عهده مقدسة كما كانت في بلد استخدم علاقاته الافريقية بفاعلية من أجل قطع دول القارة السمراء علاقاتها مع اسرائيل.
يقول سياسي موريتاني مؤيد للسلطة: “نحن نبكي حينما نشاهد التغطيات لما يجري في فلسطين مثلنا مثل أي موريتاني أو عربي آخر. لكن هناك وعي كامل بما يدور حولنا وبمصالح البلد. ولتحقيق هذه المصالح لا بد من دفع ثمن”.
ويورد هذا السياسي الذي تحدث إلى “الحياة” بشرط عدم ذكر اسمه ثلاث محطات للسياسة الموريتانية قادت إلى الوضع الحالي. في المحطة الأولى: “كانت موريتانيا تقبل الادوار الثانوية… تنفذ للآخرين سياساتهم. حينما تكون العلاقات جيدة مع العراق، تذهب مع العراق في توجهاته. ومع ليبيا الشيء نفسه، وكذا الخليج. وفي المغرب العربي كانت تتأرجح بين المغرب والجزائر بحسب الظروف”. أما المحطة الثانية فكانت الأزمة التي نشبت مع السنغال عام 1989 وهي المحطة التي “خذل فيها العرب موريتانيا المهددة في أمنها ووحدة أراضيها”.
ويقول المصدر إن “الحسن الثاني دعم السنغال . كما كانت الطائرات الجزائرية تصل إلى مطار دكار حاملة المساعدات بينما تقوم في البلد مذبحة ضد الجالية الموريتانية. أما العقيد معمر القذافي فقد أرسل إليه وفد، رد عليه بأن ليبيا تعمل على تحسين علاقاتها الافريقية، وعلى موريتانيا الصبر”. والمحطة الثالثة كانت حرب الخليج حين “التحمت القيادة الموريتانية بالشعب في دعم كامل للعراق ضد الاميركيين”، و”تحملت البلاد الحصار، وتبعات موقف لا تمكنها وسائلها منه”. ويوضح هذا المتحدث: “لقد استفدنا من تجربة المحطات الثلاث. وتوصلنا إلى ضرورة استقلال القرار والبحث عن المصالح، ولن نقبل وسيطاً. الانظمة الموريتانية السابقة كانت تقبل وسطاء تحصل من خلالهم على بعض المصالح، وتنفذ لهم سياساتهم. نحن نريد التعامل المباشر مع القوى التي يتدافع الآخرون إليها ويريدون منا أن نتخذهم وسطاء أو ننتظر حتى ينفذوا هم بنا ما يخدم مصالحهم”. و”لا موقف جدياً عربياً يستأهل أن ندفع مصالحنا ثمناً له” يقول هذا السياسي ويزيد: “ليست هناك مواقف عربية ثابتة. الكل يبحث عن مصالحه فقط، وللآخرين طرقهم الملتوية وقنواتهم السرية ولنا الموقف الصريح الواضح”.
و لا تتلقى موريتانيا مساعدات من اسرائيل، كما أن العلاقات عادية جداً، لا تتجاوز وجود سفارتين صغيرتين “عاطلتين عن العمل”. فالسفارة الاسرائيلية في نواكشوط مهجورة لا يزورها زائر، ولا يذكرها ذاكر إلا بصب اللعنات. والموريتانيون يطلقون على مقرها “البيت الأجرب”. غير أن هذه العلاقات في نظر المراقبين تخدم أهدافاً أخرى ذات صلة بالتحول السلبي في العلاقات الموريتانية – الفرنسية، وعلاقات موريتانيا بمحيطها المغاربي. فموريتانيا ظلت على الدوام تتلقى الدعم المالي والسياسي والفني من فرنسا. إلا أن مضاعفات الأزمة التي نشبت قبل عام، إثر اعتقال السلطات القضائية الفرنسية ضابطاً موريتانياً كان في دورة تدريبية في فرنسا، ورد الحكومة الموريتانية بطرد كل المستشارين العسكريين الفرنسيين أفسدت هذه العلاقات. وعلى رغم محاولات تجاوز الأزمة فإن العلاقات الثنائية استمرت في التدهور. ووصل الخلاف القمة بطرد الحكومة الموريتانية الملحق العسكري في السفارة الفرنسية في ايلول سبتمبر الماضي متهمة إياه بالتآمر مع خصوم النظام.
وللحكومة الموريتانية أسبابها الخاصة للاندفاع نحو الأميركيين. فهي تشهر بضرورة البحث عن بديل قوي من فرنسا الحليف التقليدي، يضمن ما كانت فرنسا تقدمه ويحمي من انتقامها. ولأن الوصول إلى هذه العلاقة صعب تدفع الحكومة الموريتانية هذا الثمن الغالي، وهو القطيعة مع رأيها العام. وتأتي الصعوبة من أن الادارة الأميركية تتخذ منذ 1990 مواقف معادية للحكومة الموريتانية بسبب الموقف الموريتاني الداعم للعراق في حرب الخليج، الذي ألحقت به ملفات حقوق الانسان. وفرضت الادارة الاميركية حصاراً تجارياً على موريتانيا واعتبرت واشنطن حكومة نواكشوط من بين الحكومات الأكثر خرقاً لحقوق الانسان. ووضعت إجراء محاكمات للمسؤولين عن ما تقول منظمات حقوق الانسان إنه مذابح ضد الاقلية الافريقية في البلد في التسعينات شرطاً لإقامة علاقات طبيعية مع موريتانيا.
ومنذ اعترفت الحكومة الموريتانية باسرائيل شهدت العلاقات مع الولايات المتحدة تحسناً ملحوظاً إذ صمتت واشنطن عن المطالبة بالمحاكمات، ونسيت “مقتلة” السود، وأزالت اسم موريتانيا من قائمة الدول الأكثر خرقاً لحقوق الانسان، ورفعت الحظر التجاري، وفوق هذا بدأت الولايات المتحدة – التي تعمل منذ وصول الرئيس بيل كلينتون إلى السلطة، على مضايقة الفرنسيين في مراكزهم التقليدية في افريقيا – تهتم بموريتانيا عسكرياً إذ نظمت مناورات مشتركة. كما تقدم أميركا دعماً لمدرسة عسكرية موريتانية، ونظمت تدريبات لعسكريين موريتانيين. وفي المجال الثقافي بدأت أميركا تدخل على استحياء أروقة وزارة التربية التي كان للفرنسيين دور كبير فيها. وهناك الآن 100 أستاذ أميركي للغة الانكليزية.
وعلى رغم أن مجالات التعاون ما تزال محدودة فإن الحكومة الموريتانية تنظر للمستقبل أكثر من نظرتها إلى الحاضر الذي يبدو أنها تكتفي منه بالنظرة الإيجابية الأميركية بدلاً عن حال العداء التي كانت قائمة. ويقول العارفون بولد الطايع إن حساباته تنطلق من طموح إلى أن يلعب بلده دوراً من خلال الاستناد إلى قوى دولية كالولايات المتحدة. وهو يدرك أن الصراع العربي – الاسرائيلي في طريقه إلى النهاية بهذه الطريقة أو تلك. ولذلك فإن العلاقات مع اسرائيل لن تظل لتفرة طويلة بضاعة رابحة لدى الأميركيين. وهو – كما يقولون – يرى أن رفض حكومته التخلي عن علاقاتها مع اسرائيل بينما يعلق كل “المطبعين” علاقاتهم إجراء لن يفوت الأميركيين.
وربما كان لبعض التصريحات العربية “الاستعلائية” دوره في دفع الرئيس الطايع في اتجاه الاسرائيليين. ولم يستسغ الموريتانيون عموماً تصريحات صدرت عن جهات عربية منها الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة استخفت بموريتانيا. ومنها تصريحات القذافي الذي قال إنه سيسحب اعترافه بعروبة موريتانيا. وقادت تعليقات الرئيس الجزائري إلى حسن العلاقات الموريتانية المغربية التي لم تكن جيدة خلال العقود الأربعة الماضية. لكنها أيضاً وتعليقات عربية أخرى مماثلة جعلت السلطات الموريتانية – فيما يبدو – تشدد على ضرورة أن يفهم الآخرون أنها لا تتلقى “أوامر منهم”.
“نحن نريد أن يحترمنا الآخرون. نريد أن نضمن ألا يهيننا أحد. ونرفض هذا التعالي. ولا نعتبر أن هناك من هو أحسن منا أو أعمق مواقف قومية”. ويقول القريبون من الحكومة الموريتانية إنها تعتبر أن في العالم العربي من يرون أنهم وحدهم المسموح لهم بعقد صلات مع الاسرائيليين. ويفسرون مواقف بعض البلدان المغاربية بأنها ناتجة عن الغضب من تفويت الموريتانيين عليها فرصة “احتفالية التوقيع في واشنطن على علاقات مع اسرائيل”.
تفاصيل النشر:
المصدر:الحياة
الكاتب: الشيخ بكاي
تاريخ النشر(م): 20/12/2000
تاريخ النشر (هـ): 24/9/1421
منشأ:
رقم العدد: 13797
الباب/ الصفحة: 21