المصطفي الولاتي : “أنا أبو الجيش الموريتاني ومن العار أن أصارع أطفالي”..
نواكشوط- من الشيخ بكاي-
قاد في العاشر تموز (يوليو) 1978 ثمانية عشر ضابطا استولوا علي السلطة، مدشنا في بلاده عصر الرقص علي وقع أقدام الجنود؛ ولم يكن مصطفي ولد محمد السالك يدرك انه يبدأ رحلة عذاب طويلة نحو المجهول…
دخل القصر الرئاسي حاملا ثلاثة وعود : وقف حرب الصحراء، الديموقراطية، ومكافحة الفساد، لكن كان “أبو أخطائه” أنه لم يضع حسابا لطموحات “أبنائه” المنبهرين بألق السلطة، وبريق القصور الفخمة، والسيارات الفارهة ؛
ولذا وقع وثيقة طرده قبل أن يغتسل من رائحة البارود والعرق ورمال الصحراء العالقة به من حرب السنوات الخمس ضد الـ”بوليساريو” .
رحل الولاتي – وهذا هو اسمه قبل العاشر من تموز- رحل باكرا، لكن بقي في نفسه حنين دفين الي سلطة نجا “بجسده” منها حينما لم يبق أمامه الا إراقة دماء من يعتبرهم أبناءه: “أنا أبو الجيش الموريتاني ومن العار أن أصارع الأطفال”..
هذه “الأبوة” ، وذالك الحنين ظلا شبحا يطارد الرئيس الموريتاني الأسبق حتى ادخلاه السجن متهما بمحاولة العودة بعد ثلاثة أعوام من انسحابه يجتر ذكريات حلم تحول الى كابوس.
وتدور الايام.. وينهزم الجيش أمام الديموقراطية، ليطل مصطفى برأسه (عام 1992) مرشحا لرئاسة الجمهورية منافسا للعقيد معاوية ولد سيد احمد الطايع الناجي الوحيد من الضباط الثمانية عشر الذين شكلوا ذات يوم “لجنة الانقاذ” برئاسة الولاتي .
الرئيس الموريتاني الاسبق والمرشح لرئاسة الجمهورية خص “الحياة” بأول جلسة صحفية منذ استقالته قبل اثني عشر عاما.
و “لقاء الصحافة بعد فترة طويلة من الصمت يثير الفرحة.. فقد كان آخر لقائي بها حينما تدخلت من أجل الديموقراطية وها التقيها ثانية فى أجواء ما جئت من اجله “.. يقول الولاتي.
– وماذا قدمت للديموقراطية ؟..
يرد ولد محمد السالك: “أنا عشت بين سجن هيداله المغلق، وسجن معاوية المفتوح، ولم بكن فى مقدوري القيام بأي عمل؛ وما أعنيه أنني استلمت السلطة لاصلاح الاوضاع وإقامة الديموقراطية “.
ويستعرض الرئيس الموريتاني الاسبق “تشكيل مجلس استشاري ضم ممثلين عن كل الحساسيات السياسية فى البلد، وكان مطلوبا منه وضع دستور جديد يقوم على التعددية”.
ويعتقد ولد محمد السالك أن تشكيله هذا المجلس كان البداية الفعلية التى قادت الى “خلعه”. وهي كلمة لا يحبها : “انا لم أخلع .. لقد استقلت عن وعي وحكمة.. وبعد دراسة لوضعية معينة”..
ويوضح أكثر: “جئنا لاسقاط رجل (الرئيس الاسبق المختار ولد داداه) ليست له وسائل يحارب بها ويصر على مواصلة الحرب. .وكانت النية إرساء السلام وتقويم الاوضاع، وإعادة الحكم الى المدنيين بواسطة الديموقراطية”.
وحول الظروف التى أحاطت استقالته:
” انا أبو الجيش الموريتاني ومن العار ان أصارع أبنائي .. وقد استقلت لأنه لم يبق أمامي الا إراقة دماء أبنائي .. أنا جئت من اجل حقن الدماء فكيف اسيلها ؟”.
– لكنك بهذا تهربت من مسؤلياتك..أليس كذالك؟”
– “لا ..لقد لعبت على قيمة عسكرية هي تقديم المثل الأحسن..وباستقالتي قلت لصغار الضباط هيا استقيلوا وأعيدوا الحكم الى أصحابه”.
ويبدو أن العقيد ولد محمد السالك نسي أنه أعطى “أطفاله الضباط” مثالا آخر حينما قادهم فى انقلاب، وأن الدرس الأول لا ينسى .. وقد كان هو نفسه أول من طبقوا فيه هذا الدرس؛ إذ لم تمض تسعة أشهر حتى حولوه الى رئيس صوري، ممهدين لذالك بزرع الشكوك بينه وساعده الأيمن الرائد جدو ولد السالك الذى كان وزيرا للداخلية.
وفى انقلاب صامت أرغم الرئيس الموريتاني فى 6 ابريل 1979 على الاكتفاء بظل القصر الرئاسي، بينما حولت السلطة الى الضابط أحمد ولد بوسيف الذى عين رئيسا للوزراء، وجماعة الضباط الموالين للمغرب، ومن بينهم المقدم أحمد سالم ولد سيدي ، ومحمد ولد عبد القادر .
ولم تمض فترة قصيرة حتى أزيحت هذه المجموعة بعد وفاة رئيس الوزراء فى تحطم طائرة. ويستلم المقدم محمد خونا ولد هيداله الرئاسة الفعلية، ويقصى بعد فترة وجيزة الرئيس ولد محمد السالك ليحل محله المقدم محمد محمود ولد أحمد لولي الذي استقال هو الاخر بعد شهور.
– ” لقد كانوا أطفالا يتسلون بلعبة خطرة، لكنني لو كنت أعلم أن الأمور ستؤول الى ما آلت اليه لكنت أسلت دما محدودا ينقذ الموريتانيين مما سفك من دماء على مدى الأعوام اللاحقة”. يقول الولاتي.
ويجسد الموريتانيون تاريخ الحكم العسكري وشخصيات الحكام في نكتة تقول إن الرئيس المدني الاسبق المختار ولد داداه ربط عفريتا فى أحد حمامات القصر الرئاسي، وحينما شاهده الرئيس مصطفى الولاتي أغمي عليه، أما ولد أحمد لولي فقد التفت الى العفريت قائلا: “دعني بسلام انا راحل” ، وحينما جاء هيدالة دخل فى عراك شديد معه . وكان معاوية (الرئيس الحالي) يتفرج وحينما أيقن انهما ضعفا قضى عليهما معا.
ويشاء الحظ العاثر ان يستيقظ الرئيس مصطفى من إغماءته عام 1982 فإذا هو فى زنزانة ضيقة متهما بمحاولة إعادة نفسه فى انقلاب بعثي.
وينفي ولد محمد السالك أية صلة بالبعثيين:”لست بعثيا ولا يمكن ان أكون على الرغم من أني أشركت البعثيين فى الاعداد لحركة العاشر يوليو مع آخرين، وعلى الرغم كذلك من وجود صلات لي بالرئيس صدام حسين وبعض الشخصيات العراقية”.
وعن الانقلاب الثاني : ” لا صلة لى بهذه التهمة .. الحقيقة أنني كنت على الرغم من عزلتي شخصا مزعجا للحكام .. كنت عرقلة أمام رغبات البعض فى فرض أنفسهم رجال دولة.. كنت بصورة ما أشكل ضمانة لمستقبل البلد.. ووجودي يزعج أطفالا يلعبون”.
ولعل المزعج حقا للرئيس السابق محمد خونه الذي اعتقل السيد مصطفى كان إصرار الأخير على إعطاء نفسه حق “الأبوة” وحضوره الاحتفالات فى زيه العسكري المرقط ، ونجومه البارزة على الكتف.
وقد تردد أن ولد محمد السالك كان يحضر الاحتفالات دون أن يدعى إليها معتبرا أن من حقه كرئيس سابق الحضور.
العقيد السابق مصطفى ولد محمد السالك يرفض إصدار حكم على هيداله وولد الطايع:” التاريخ حكم عليهما”… لكنه”يسامح الجميع وعلى استعداد للتعاون مع هيداله فى الانتخابات ” فهو أب للجميع ” وماذا يفعل الوالد إذا فقأ طفله عينه؟”، يشرح الرئيس السابق.
وحول استعداد الجيش للديموقراطية الآن وحظوظه هو فى دعم من القوات المسلحة يقول ولد محمد السالك:- “المؤسسة العسكرية ناضجة، وتقبل بالديموقراطية، وحظوظي فيها قوية .. الجندي ليس مرغما على التصويت لهذا المرشح او ذاك، والعسكريون مثل غيرهم يتأثرون بواقع البلد وتياراته المختلفة.. وأعرف ان العسكريين الممنوعين من ممارسة السياسة ينظرون باستغراب الى رئيسهم (معاوية ولد الطايع) الذي ما زال عسكريا ومع ذالك يمارس السياسة”.
ويرى ولد محمد السالك أن الشعب الموريتاني “سيصوت لي لأني تدخلت لنجدته فى ظروف صعبة ولم أسئ الى أي أحد “.
وعن اتهامه بلعب ورقة الجهوية والقبلية يقول: “أنا من ولايات الجنوب الشرقي وأشعر بمشاكل سكان تلك المناطق، وآمل أن يعطوني ثقتهم فى الانتخابات، لكنني أرشح نفسي لكل الموريتانيين، ولى علاقات وطيدة مع العديد من الشخصيات فى جميع أنحاء البلد” .
ويرد ولد محمد السالك التهمة الى الرئيس الحالي: “الذي يشتم القبيلة والقبائل حينما كانت مصلحته تتطلب ذالك، وهاهو يعيد موريتانيا الآن الى النظام القبلي من خلال التعامل مع رؤساء القبائل، وإعطاء الرشوة لهذا وتخويف ذالك”.
ويلعب ولد محمد السالك ورقة انتمائه الى ولايات الجنوب الشرقي ذات الكثافة السكانية الكبيرة فى وجود مرشحين قويين آخرين هما الرئيس الحالي الذي ينتمي للشمال والموجود فى السلطة منذ سبعة أعوام ووزير المال الاسبق أحمد ولد داداه وهو من المنطقة الغربية، وقد حكمت أسرته سبعة عشر عاما، لكن الولاتي يعتبر “هذه السألة ثانوية .. أنا مرشح المحرومين فى كل أنحاء موريتانيا، وليس لدي مال الدولة أقدمه رشاوى، كما أنني لست رجل أعمال، ولا يدعمني أصحاب الملايين؛ ومع ذالك آمل الفوز إاذا كانت الانتخابات نزيهة”.
وهل سيعيد مصطفى الولاتي البلاد الى النظام الأحادي اذا ما فاز؟
– “لا لكنني سأعطي الديموقراطية محتوى موريتانيا … سأترك للشعب الموريتاني اختيار النمط الديمقراطي الذي يعجبه، ولو استمع الرئيس الحالي الى نصيحتي شكل حكومة انتقالية لمدة عامين وأعطى الموريتانيين حق اختيار ما يريدون” .
وحول الصحراء الغربية وإخراج موريتانيا من حرب الصحراء، ومن الساحة كطرف مؤثر:
– “هذا لا يعود إلي.. أنا لم أحضر اتفاقيات الجزائر مع البوليساريو ..وما حدث كان يناقض تصوراتي. كنت أريد وقف الحرب مع بقاء موريتانيا طرفا معنيا مؤثرا..”.
وعن الانقسامات العرقية فى موريتانيا والأزمة مع السنغال:
– ” العلاقات الموريتانية السنغالية ومشكل السود أزمتان مرتبطتان نوعا ما ظاهريا، لكنهما مستقلتان عن بعضهما بعضا .. السنغال دولة (شقيقة) وسأقيم معها إذا فزت علاقات مثالية تحترم حقوق بلادي.. ومسألة السود الموريتانيين سأعالجها على أساس العدل… وأرفض منح ميزة خاصة لمجموعة موريتانية ، كما أرفض سيطرة مجموعة على أخرى.. ولغة الأكثرية فى رأيي لغة البلد..أما الفرنسية فهي لحد الآن لغة نحن مرغمون على استخدامها لأسباب موضوعية”.
“الحياة” اللندنية 28 نفمبر 1992