الفلاحون البدو في موريتانيا يحاربون الطيور و يطوعون الطبيعة بأدوات بدائية ..
لحرج (موريتانيا) -من الشيخ بكاي – ترتفع الجلبة ونحن نقترب من سد “الخدمه” الواقع في “تكانت” وسط موريتانيا. يختلط صراخ الرجال والأطفال والنساء بثغاء البقر ورغاء الابل و”طنطنة” الحديد، وما يشبه صوت الطلقات النارية. وتنطلق أعمدة الدخان من أماكن مختلفة في أرض السد المنسابة على مد النظر “غابة” خضراء.
معركة غير متكافئة يخوضها الفلاح الموريتاني بأساليب “قتالية” خاصة ضد جيوش من نوع خاص. وقال السيد مختار: “منذ أعوام لم نزرع لأن المطر احتبس، لكن السنة الحالية كانت أجود أعوام العقد الأخير، فقد روت مياه المطر السدود والوديان والسهول. زرعنا وعاد الأمل. لكن الطيور والماشية تفسد الفرحة”.
ويتحدث الفلاح البالغ من العمر 50 عاماً لـ”الحياة” عن الأساليب التي يعتمدها الموريتانيون في الريف لزراعة الأرض، وهي بدائية لكنها مع ذلك “تفي بالغرض”.
ولا يستخدم الفلاح في الريف الحيوان كما انه لم يسمع بعد بـ”التراكتور”. فالعمل يجري يدوياً ويقتصر على عضلات الفرد. فحينما يروي المطر الأرض ينتظر الفلاح أياماً حتى تجف قليلاً ثم يبدأ عملية البذر. ويعتمد هنا على ما يعرف محلياً بـ”أواجيل” وهو “قطعة صغيرة من الحديد يتم شحذها لتتمكن بسهولة من شق الأرض. وتركب قطعة الحديد على عود غليظ قصير من أغصان الشجر. وبواسطة الـ”أواجيل” يحفر الفلاح في الأرض حفراً صغيرة يتم ايداع البذور فيها. وتتم العملية وهو مقوس ظهره وموسع رجليه لئلا يختل توازنه وهو يهوي الى الأرض ممسكاً القضيب الخشبي في يده. وهو يقضي اليوم كله على هذه الحال لأكثر من اسبوع بينما يتولى غيره – ويكون في أكثر الأحيان امرأة – ملء الحفر بالحب البذور.
ويميز السيد مختار بين نوعين من “المحاريث”، فهناك المحراث الذي “يستخدم في البذر وعوده أطول بينما يستخدم آخر اقصر في عملية “الكجي” ازالة النباتات الضارة”. وتبدأ هذه العملية بعد ان تنبت البذور وترتفع قليلاً فوق الأرض. ويتخذ الفلاح الهيئة نفسها لنزع النباتات التي تنمو الى جانب البذور. وتستغرق العملية أسابيع لكن البعض يسرعها بالتعاون إذ يقرر مزارعون العمل معاً في الحقول، يوماً لهذا، ويوماً لذاك. “وعلى الفلاح الذي يستقبل الآخرين ان يقيم وليمة كبيرة يستحسن ان تشمل ذبائح”.
ويعمل الفلاحون على تجاهل التعب ونسيان المعاناة أيام “الكجي” بالغناء والرقص أحياناً، و”يتبارون في السرعة وقوة السواعد وفي قوة التحمل حيث يكون المنتصر من يصبر أطول وقت من دون ان يريح ظهره بالوقوف او الجلوس”.
ويقول السيد مختار انه شخصياً يعتمد على نفسه ولا يلجأ الى “التويزة” العمل الجماعي “لأن…”. وقبل ان يكمل يقاطعه هجوم من ثلاث جهات… ثلاثة أسراب من الطيور ذات الألوان والأحجام المختلفة… ويصرخ مختار: “باره…” … “قرواط…”… “فاله…”… والأسماء الثلاثة تدل على جماعات الطيور. وينادي الفلاح كل نوع باسمه في شكل تحذيري غاضب كما لو كان شخصياً يعرفه، وهو يعادي أنواعاً من الطيور أكثر من غيرها. ويردد الفلاحون قصصاً عن الطيور لا تخلو من غرابة وطرافة.
ويستخدم الرجال في الحرب على الطيور ما يطلق عليه محلياً “الزرنيفة” وهي قطعة جلد مجوفة يوضع في طرفيها حبلان من جلد المعز ينتهي أحدهما بشريط رقيق من جلود الحملان. وبداخل تجويف “الزرنيفة” توضع أحجار او طوب. ويمد الفلاح يده “بالزرنيفة” بقوة، ويرخي الجزء الذي ينتهي بالشريط فتتطاير الحجارة لتصيب الطير فيما يصدر عن الشريط الجلدي صوت يشبه الطلق الناري. والفكرة من باب التقريب الى الذهن تشبه فكرة “المنجنيق” القديم. اما النساء فيأخذن علباً حديدية يملأنها بالحجارة ويحركنها فتصدر عنها أصوات مزعجة تطرد الطيور. وهي تسمى “الكركارة” نسبة الى صوتها. واضافة الى ذلك هناك الصراخ واشعال الحرائق. وهناك ايضاً “الخيال” وهو قطع قماش توضع على أماكن مرتفعة فتحركها الرياح. يعود مختار الى الحديث بعد ان يصد الهجوم فيقول: “حينما لا تأتي الأمطار تتوقف حياة الناس على المساعدات الغذائية التي تحصل عليها الدولة من الخارج وتبيعها للمواطن بأسعار خاصة. وكذلك على القمــح المســتورد المرتفع الثمن”.
ويقيم الموريتانيون حواجز رملية بسيطة وسدوداً لحجز مياه المطر. وتمتلك كل قبيلة مناطق معينة لها وحدها الحق في اقامة السدود عليها. ويعتبر “الدخن” ويسمونه في موريتانيا “الزرع” اكثر المزروعات انتشاراً في البلد، ويليه “الفول السوداني” والذرة. وكان الدخن في السابق الوجبة الرئيسية “لكن أعوام الجفاف التي أدت الى توقف الموريتاني عن استغلال أرضه وجعلته يلجأ الى القمح الأجنبي أنست الناس أكل الدخن”. كما قال مختار. ويشرح الفلاح الذي تبدو عليه آثار السنين وشظف العيش لكنه مع ذلك يبدو قوياً: قلة هم الآن من يعتمدون هذه المادة في الغذاء، فالغالبية تبيع الزرع الدخن علفاً للحيوان وتشتري القمح”.
ومثل مراحل العمل الأخرى في حقول الموريتانيين لا تقل عملية الحصاد صعوبة عن غيرها. ويكسر الفلاح سنابل “الزرع” بيده سنبلة سنبلة ويجمع السنابل في مكان واحد يشترط ان يكون أرضاً صلبة. ويقول مختار: “نترك السنابل فترة حتى تيبس فنقوم بعملية “الدبيز” التصفية”. وهي فصل الحب عن النخالة. وتتم العملية في جو احتفالي، حيث يأتي الرجال وفي يد كل واحد عمود خشبي طويل يهوي به على أكوام السنابل وذلك في شكل منغم أقرب الى حركات الرقص، فيما تتولى النساء الغناء والقرع على بعض آلات الضرب المحلية لتشجيع الرجال.
جريدة الحياة اللندنية 6 أبريل 1998
114 تعليقات