أزواد : الأعراق والمذابح والسلام الصعب
باماكو- من الشيخ بكاي – (أرشيف)- بدأت طائرة “ايرباص” التابعة للخطوط الجوية الافريقية الهبوط الى مطار العاصمة المالية باماكو، وقال الشاب الجالس بجانبي – ابو بكر – وهو ينظر عبر النافذة الى جسر الملك فهد الذي يربط بين اجزاء المدينة الواقعة على ضفتي نهر النيجر: “خرجت من هذه المدينة مع اسرتي قبل اربعة اعوام تاركين كل ما نملك للقتلة، ولست ادري ماذا يخبئ المستقبل هذه المرة”. وأضاف: مللت حياة اللجوء والمهانة خارج الوطن وأملي كبير في ألا تستدرجنا الحكومة المالية الى مذابح جديدة.
وأبو بكر احد عشرات من العرب والطوارق الماليين الذين يعودون هذه الأيام من مخيمات اللاجئين في الدول المجاورة للاطلاع على الاجواء الامنية ليقرروا اذا كانت العودة النهائية ممكنة، او للمشاركة في ترتيبات السلام المدني بين الحكومة والثوار العرب والطوارق.
جذور التمرد
يطلق اسم “ازواد” على المنطقة الصحراوية الواقعة في شمال مالي، ويسكنها العرب والطوارق وبعض المجموعات العرقية الاخرى وأهمها الصونغاي. وتعود اصول العرب الماليين الى هجرات قبائل بني حسان العربية في القرن الثالث عشر الميلادي. وتعود اصول بعضهم الى الغزو المغربي للمنطقة في عهد الدولة السعدية العام 1591. وهو الغزو الذي أدى الى سقوط امبراطورية الصونغاي، وإلحاق ازواد بالعرش المغربي. ومن بين احفاد جنود الحملة المغربية التي ارسلها مولاي احمد الذهبي من انصهروا بعد تلاشي الدولة السعدية في السكان المحليين اجتماعياً ولغوياً ويعرفون الآن بـ “أرما” يعتقد انها تعني الرماة. ويشكل العرب الأزواديون نسيجاً بشرياً متجانساً مع سكان موريتانيا والصحراء الغربية وجنوب المغرب وجنوب الجزائر.
أما الطوارق فهم احفاد البربر الذين يعتقد ان العرب طردوهم من ليبيا في القرن السابع الميلادي. وزاد عددهم بشكل كبير في القرن العاشر إثر حملات موسى بن نصير التي طردتهم من جنوب الاطلس المغربي. وشهد اقليم ازواد ازدهاراً اقتصادياً وعمرانياً وثقافياً ملحوظاً استمر نسبياً حتى نهاية القرن الثامن عشر. اذ بقي مركزاً تجارياً مهماً ونقطة اساسية على خط سير القوافل بين ما كان يعرف ببلاد السودان والشمال الافريقي. وخرّجت مدارس تيمبوكتو، عاصمة الاقليم، عدداً كبيراً من رجالات العلم والأدب والدين من ابناء المنطقة والاصقاع المجاورة، خصوصاً موريتانيا والمغرب. وظلت مكتبات تيمبوكتو بغية للطالبين من معظم البلدان الاسلامية. ورغم هذا الازدهار والاستقرار الحضاري الذي أتاح تأصيل الثقافة العربية في “بلاد السودان”، وقيام طبقة ارستوقراطية عربية في المدن، بقيت البداوة السمة الغالبة، خصوصاً لدى الطوارق المحاربين في المقام الاول ويسكنهم هاجس التمرد بشكل دائم. ولم تكن علاقات العرب والطوارق الماليين سهلة قط مع اخوانهم السود، ولا حتى بين العرب والطوارق من جهة، وبين الطوارق انفسهم من جهة أخرى.
خلال الفترة الاستعمارية رفض الازواديون اي صلة بالفرنسيين، واستخدموا علاقاتهم الحميمة بالصحراء والجبال في المقاومة. ومع انه اخضعت كل بلاد السودان مالي الحالية بما فيها العاصمة الازوادية تيمبوكتو التي احتلت العام 1893، فان ازواد لم تخضع حتى عام 1932 بعدما اخضع الفرنسيون المغرب بأسره.
ومنح اقليم ازواد استقلاله لينفصل عن “بلاد السودان”، ما خفف العمليات ضد الفرنسيين ومكنهم من اقامة صلات مع بعض الزعامات. غير ان الفرنسيين منحوا مالي كلها استقلالها. وجاء الرد الأزوادي بعد نحو ثلاثة اعوام من الاستقلال في شكل عصيان مدني العام 1963، فقمعته السلطات الحكومية بوحشية. وساعدت حكومة الرئيس الجزائري السابق احمد بن بيللا نظيره الاشتراكي المالي موديبو كيتا في قمع الطموحات الانفصالية للأزواديين بتسليم زعمائهم الذين فروا الى الجزائر. ومنذ انتفاضة 1963 وضع اقليم ازواد تحت ادارة الجيش. وحفرت تصرفات الجيش القاسية ضد السكان والإهمال الكامل للشمال هوة “نفسية” و “اقتصادية” سحيقة بين شمال البلاد وجنوبها. وزاد مضاعفات تمرد 1963 والهوة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الجفاف المدمر الذي ضرب المنطقة بين عامي 1973 – 1984. وبسبب هلاك الثروة الحيوانية اضطر عدد كبير من الازواديين الى الاحتشاد في ضواحي المدن بانتظار المساعدات الغذائية الدولية، واضطر آخرون الى الهجرة الى ليبيا وموريتانيا والجزائر. ومن هؤلاء انطلقت شرارة الثورة التي تحرق المنطقة منذ 1990 بقيادة شبان تدرب بعضهم في معسكرات ليبية، ومارس الحرب في تشاد ولبنان وفلسطين. وأثارت العمليات المتلاحقة المفاجئة التي شنها الثوار الذعر في نفوس ممثلي الادارة الذين فروا من الاقليم بغير رجعة.
وفي محاولة لوقف التمرد، عقد مؤتمر للدول المطلة على الصحراء الافريقية في جانت، في الجزائر، في ايلول سبتمبر 1990 حضره الزعيم الليبي معمر القذافي الذي ارتدى زي الطوارق، في اشارة واضحة الى انه يتبنى الثورة الازوادية. وبوساطة جزائرية اجرت حكومة الرئيس السابق الجنرال موسي تراوري اثر هذا المؤتمر اتصالات مع ممثلي “الجبهة العربية الاسلامية لتحرير ازواد” و “الحركة الشعبية لتحرير ازواد”، وكانا الفصيلين الوحيدين في الساحة آنذاك. وأسفرت الاتصالات عن ابرام اتفاق سلام في تمنراست في الجزائر، في كانون الثاني يناير 1991، تعهدت بموجبه الحكومة تخصيص 47.3 في المئة من مخصصات التنمية للاقليم، ودمج المقاتلين في الجيش، والاسراع في تطبيق نظام لامركزي يسمح بقدر من الادارة الذاتية، وسحب الجيش من المناطق التي يوجد فيها المدنيون، واغلاق بعض القواعد العسكرية في الشمال، وتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في المذابح التي نفذها الجيش في صفوف المدنيين العرب والطوارق.
في مقابل التزام السلطة تخلى الثوار عن المطالبة بالانفصال الذي لم يكن يروق للوسيط الجزائري، بسبب خوفه من مطالب مماثلة من الطوارق الجزائريين. لكن اتفاق تمنراست انهار، لتعود الحرب أشد ضراوة، ويذبح الجيش مزيداً من العرب والطوارق، وتستقبل موريتانيا والجزائر وبوركينافاسو أفواجاً اخرى من اللاجئين.
مذابح “أهل الأرض”
واصلت الدول المجاورة، خصوصاً الجزائر، مساعي احلال السلام، ونجحت في جمع ممثلي الحكومة والثوار مجدداً في الجزائر العام 1992، وتم التوصل الى اتفاق سمي “المعاهدة الوطنية”. ونص على دمج المقاتلين في الجيش، وتوفير الظروف الامنية والمادية لاعادة اللاجئين، ووضع برنامج تنموي خاص ينفذ على مدى عشرة اعوام لامتصاص التفاوت بين الشمال والجنوب في الميادين الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ومنح الاتفاق الاقليم “وضعاً خاصاً” تكون له بمقتضاه مجالس جهوية ومحلية تتولى تسيير اموره، إلا ان الاتفاق انهار هو الآخر العام الماضي، ونتيجة تباطؤ الحكومة في تنفيذ بنوده، ورفض الجيش وبعض القوى السياسية له لبنوده الأخرى.
ومع ان الحكومة والثوار تبادلا اتهامات في شأن العودة الى الحرب، فان الانهيار جاء بعد ظهور حركتين مسلحتين للسود، هما حركة “غاندا كوي” – وتعني اهل الارض – الناطقة باسم جماعة الصونغاي، وحركة “لافيا” – وتعني العافية – الناطقة باسم مجموعة “بيللات” التي تمثل الاتباع السابقين للطوارق. وقامت “غاندا كوي” بذبح مجموعة من الطوارق في بلدة تاشاران في ايار مايو 1994، ما أدى الى ان يجهز الثوار حملة عسكرية من عناصر مندمجة في الجيش بموجب “المعاهدة الوطنية” لتأديب الصونغاي في بلدة اخرى اسمها فافا. وكمن الجيش للمجموعة فقتل زعيم الجناح العسكري لـ “الجبهة العربية لتحرير أزواد” ابو بكر الصديق وعدداً من الضباط والجنود العرب، لتدخل المنطقة منذ تلك الواقعة موجة جديدة من العنف، شملت مذابح ضد السكان البيض بالتعاون بين الجيش والمنظمات شبه العسكرية المتعاونة معه، وفر مئات الآلاف مجدداً الى الدول المجاورة.
وفي الواقع تضافرت عوامل عدة منها العراقيل التي منعت تنفيذ اتفاق السلام في الوقت المحدد لذلك، وهي عراقيل ذات طابع نفسي وسياسي ومادي. ولعل اهمها الرفض في صفوف الجيش الحكومي لدمج المقاتلين، والتعامل معهم في اطار الوحدات الخاصة ذات الغالبية العربية – الطوارقية التي يفترض ان تتولى حماية سكان الشمال.
وعاد الامل المشوب بالشك والحذر الى نفوس الماليين منذ اعلنت الحكومة والجبهات الازوادية اخيراً العودة الى مفاوضات السلام على اساس المعاهدة الوطنية التي انهارت العام الماضي.
وقالت مصادر ديبلوماسية في باماكو لـ “الوسط” ان السلطات المالية تخضع لضغوط شديدة من قبل الدول الغربية، وبشكل خاص بعض دول الاتحاد الاوروبي التي استطاعت الجبهات الازوادية ان تستميل قطاعات من رأيها العام، بالاستغلال الواسع لوسائل الاعلام، بالحديث عن المذابح والتشريد التي يتعرض لها المدنيون على أيدي القوات المسلحة المالية، ومنظمات السود شبه العسكرية التي يتهم الجيش بالاشراف على تدريبها وتسليحها. وحسب هذه المصادر “ساهم قتل الجيش المالي للقنصل السويسري العام جان كلود بربرا نهاية السنة الماضية اثناء قيامه بمهمة انسانية في ازواد في إثارة حملة اعلامية واسعة ضد الحكومة المالية”. وتجد حكومة الرئيس كوناري صعوبات شديدة في اقناع فرنسا، الشريك الغربي الأهم، بتقديم مساعدات اقتصادية كبيرة الى مالي. ويقول الممولون الفرنسيون ان استثمار الاموال وتقديم مساعدات التنمية مرهون باستتباب السلام. وتأمل الحكومة في تدفق اموال تنفخ الروح في اقتصاد ضعيف اصلاً منهك بسبب العمليات العسكرية، وذلك من خلال تمويل عمليات اعادة اللاجئين واقامة مشاريع تضمن استقرارهم ودمجهم في الحياة الاقتصادية العادية.
وتشعر المنظمات السياسية والعسكرية التي تقاتل الحكومة بأنها لم تعد قادرة على الاستمرار بسبب عدد من الاسباب، ومنها الانقسامات الداخلية وضغوط اللاجئين الذين “ملوا التسكع في اطراف المدن الموريتانية والجزائرية والبوركينافية” كما قالت لـ “الوسط” لاجئة عادت اخيراً من موريتانيا. ولعل اهم تلك الاسباب الضغوط التي تمارسها الجزائر وموريتانيا والجماهيرية الليبية. وزادت هذه الضغوط اثر الجولة التي قام بها اخيراً الرئيس المالي كوناري، وشملت الجزائر ونواكشوط وطرابلس. وأبلغت العواصم المغاربية المعنية الزعماء الازواديين بأن السلام هو الطريق الوحيدة السالكة، ونبهت موريتانيا والجزائر، كل الاطراف الى انه لم يعد بامكانها تحمل مزيد من القلاقل على حدودهما.
ولكل من البلدان الثلاثة ما يشجعه على العمل على التعجيل بانهاء النزاع الازوادي، فالجزائر – التي ظلت تمارس نفوذاً على ملفات قضايا الصحراء الكبرى من النيجر، مروراً بمالي، وانتهاء بالصحراء الغربية – تعيش حرباً اهلية، وتكتوي بنار الساقية الحمراء ووادي الذهب، وتخشى مطالب الاقليات القومية الطوارقية. اما موريتانيا التي تستقبل معظم اللاجئين والتي يرتبط العرب الماليون بسكانها ارتباطاً وثيقاً فلها مشاكلها مع اقليتها الافريقية التي تستضيف مالي بعض ناشطيها السياسيين والعسكريين – وهي تريد التخلص من مشكل محرج وخطر وجدت نفسها متورطة فيه بحكم الجغرافيا والتاريخ. ويعمل الرئيس معاوية ولد الطايع الآن على التصالح مع ابناء الاقلية الافريقية بصورة غير معلنة، وهو يفهم اهمية الاستقرار على حدود بلاده مع مالي وذلك بمنع اعمال العنف التي ينفذها من حين لآخر ناشطون سود يتخذون من اراضي مالي مراكز لانطلاقهم. وحتى وجود الازواديين على الارض الموريتانية له اضراره البالغة، فمن جهة تحولت مناطق الحدود مع مالي الى ما يشبه الارض السائبة التي تعيث فيها فساداً عصابات من اللصوص متعددة الجنسيات تحت ستار النزاع المالي. ومن جهة ثانية تتكبد الخزينة الموريتانية اموالاً طائلة في وضع جزء من الجيش الموريتاني في حال استنفار شبه دائمة على الحدود لمنع استخدام الثوار الازواديين الارض الموريتانية ضد الجار الجنوبي الشرقي، ولضمان أمن المواطنين وممتلكاتهم.
وتعاني الجماهيرية الليبية التي دربت معظم القادة العسكريين الازواديين حصاراً دولياً لا يسمح لها بالتورط في اي نزاع. وشكلت ليبيا في الآونة الاخيرة اولوية للديبلوماسية المالية لأنها تعتبر الآن مفتاحاً للمشكل، فمعظم الثوار جاؤوا من هناك، وبسبب الضغوط الموريتانية والجزائرية يبحث الثوار الازواديون عن متنفس فيها، وهذا ربما ما يفسر ارتباط زعيم “الجبهة العربية” الذهبي ولد سيدي محمد بالسلطات الليبية هذه الايام، وحرصه في تصريحاته على القول انه يفاوض استجابة “لتدخل قائد ثورة الفاتح من سبتمبر” الليبية.
رغبة في السلام
لكن هل تكفي هذه العوامل لاحلال السلام؟
كل اطراف النزاع التي التقتها “الوسط” ابدت رغبتها في احلال السلام. وقال وزير الاعلام المالي لـ “الوسط” ان “السلام مرتقب والحكومة بذلت الكثير من الجهد وارسلت وفوداً الى اللاجئين للحوار معهم ودعوتهم الى العودة”. وكان الوزير نفسه يرأس الوفد الذي توجه اخيراً الى مخيمات العرب والطوارق الماليين في الجزائر. ومع ان البعض استمع الى رسالة الوفد فان الوفد الرسمي استقبل في بعض المناطق بالرشق بالحجارة. وكانت الامور اسهل في مخيمات موريتانيا وبوركينافاسو.
ويتفق منسق “اتحاد الجبهات والحركات الازوادية” عبدالرحمن غله مع وزير الاعلام المالي في ضرورة التفاؤل، فهو يعتبر “ان الامور تسير في الاتجاه الصحيح”. وقال الزعيم الطوارقي الذي يقود “الجيش الثوري لتحرير ازواد”: “عاش الناس تجارب قاسية والكل يريد السلام … وعلى السلطات عدم المماطلة في تنفيذ معاهدة السلام، لأن عدم الاسراع في التنفيذ هو ما اعادنا الى نقطة الصفر العام الماضي”.
وقال غله الذي استقبل “الوسط” في مقره الجديد في العاصمة باماكو الذي خصصته له السلطات منذ عودته قبل ايام مع بعض معاونيه “كل زعماء الجبهات هنا الآن، باستثناء الجبهة العربية التي لم ينضم مسؤولوها الينا بعد، على رغم انهم مبدئياً يوافقون على السلام”. وأضاف “السلطات تقبل بحقوقنا ونحن نلتزم بواجباتنا في اطار وقف اطلاق النار، فمقاتلونا في معسكراتهم، ولا يقومون بأي تحركات تمس هذا المسار”. وقال: “منعنا بشكل صارم تحريك السلام، ووضعنا المقاتلين وأسلحتهم في مناطق محددة في انتظار الدمج الكامل في الجيش”. وأكد ان الجبهات اقتنعت بأنه ليس هناك سوى طريق واحدة تتمثل في السيطرة على الوضع الامني والتنسيق مع الحكومة لانهاء الازمة.
ويعتقد رئيس “الجيش الثوري” ان الوضع هادئ الآن “فلا مشاكل امنية في الشمال باستثناء وقوع اي حادث منعزل، وخلال مدة قصيرة اعتقد ان مثل هذه الحوادث سينتهي، لأن التوجه الآن للسلام”. وشدد غله على “ان الاخطار تكمن في عدم الاسراع في تنفيذ المعاهدة بحذافيرها ودون اي تعديل”. غير ان تنفيذ المعاهدة الوطنية من دون تعديل يواجه اعتراضاً في الاوساط السياسية والحكومية “السوداء” على رغم الاستعداد المعلن للتنفيذ.
وقال زعيم المعارضة النائب في البرلمان منتقي تال لـ “الوسط”: “انا ضد من يقولون كل المعاهدة او لا شيء. المعاهدة مليئة بالأخطاء وينبغي ان تعاد قراءتها باشراك الجميع، ولا يمكن الحديث عن تضميد الجراح من دون تقديم تنازلات”. وانتقد تال رفض الازواديين عودة اللاجئين من دون ضمانات امنية. وقال “هذا يعني ان يواصلوا العيش كلاجئين”. ورأى ان تجريد المقاتلين من اسلحتهم ودمج بعضهم في الجيش يكفي لاستتباب الأمن. وحذر من انه ينبغي ألا يكون هناك جيشان وعلى المتمردين قبول النظام والانضباط العسكري. ويريد السود تعديل المعاهدة لكسر الطابع العربي – الطوارقي الذي تعطيه للاقليم. وترتفع اصوات تنادي بجعل حركة “غاندا كوي” طرفاً مهماً في شؤون ازواد لمنع اعتباره منطقة عربية.
ويبقى السؤال المطروح: هل الحكومة قادرة على السيطرة على الجيش ومنظمة “غاندا كوي” المتفرعة عنه بحيث يقبلان السلام؟ قال عزاز آغ لودغدغ، وهو من أطر الجيش الثوري، ان الحكومة هي وحدها من يستطيع احلال السلام، وما دامت الحكومة لم تسيطر على جيشها فمن الصعب القول ان السلام سيأتي، وما دام اهل ازواد لم يشاهدوا محاكمة شخص على المذابح والقتل فلا يمكن الايمان بالسلام. ويجمع مراقبون محايدون على ان الرئيس المالي كوناري جاد في البحث عن السلام، لكنهم يقولون انه لا يحكم السيطرة على الجيش الذي فقد انضباطه العسكري منذ الاحداث التي اطاحت نظام الحزب الواحد قبل اعوام. وتخضع قطاعات من الجيش لنفوذ المتطرفين المؤمنين بالتطهير العرقي وسيلة لانهاء النزاع الدموي في الشمال. وترتفع نسبة قبيلة الصونغاي المتورطة مباشرة في الصراع في المؤسسة العسكرية، ويعمد كثير من الضباط الى كسر مخازن الاسلحة التابعة للجيش لتسليح منظمات السود السرية. ويشعر قادة المؤسسة العسكرية بأن اشراك المدنيين السود في الحرب ضد العرب والطوارق امر كان له تأثيره البالغ في اثارة الرعب. وقال مصدر مقرب الى قادة الجيش لـ “الوسط”: لو امهل الجيش بضعة اشهر لاستؤصلت جذور التمرد نهائياً من دون كلفة. وذكر المصدر ان حركات المتمردين متناحرة “ومن السهل تركها تأكل نفسها بنفسها والاجهاز عليها واحدة تلو الاخرى”. وأشار الى انه منذ فترة “لم يعد يتحرك ضدنا الا الجبهة العربية، لأن الجبهات الاخرى منشغلة في صراعاتها الداخلية”.
فيما يجري التفاوض وإعداد الرأي العام لسلام وشيك، تشن وسائل الاعلام المالية حملة ضارية على رئيس “الجبهة العربية لتحرير ازواد” الذهبي ولد سيدي محمد، وتصفه بأنه مجرم وقاتل “ينبغي ان يحكم بتهمتي القتل والتشهير بالشعب المالي”. وتقول الصحافة انه يمكن التسامح والتصالح مع الجميع باستثناء الذهبي. وأجرت احدى هذه الصحف استطلاعاً للرأي لم يقبل من المشتركين فيه عودة الذهبي الى البلاد سوى قلة. ولا تخفي الحكومة المالية التي تحاول الابتعاد عن الحملة اعتقادها ان رئيس الجبهة العربية ليس الأمثل للمشاركة في تحقيق السلام الآن. ويستغرب متتبعو شؤون المنطقة هذه الحملة المركزة على رئيس “الجبهة العربية” وحده، لأمور منها انه ليس سوى قائد ميليشيا مثل غيره، ولا يمتاز عن القيادات الازوادية الاخرى بممارسات خاصة. ولأن عملية “فافا” التي هاجم فيها الثوار احدى قواعد “غاندي كوي” التي تتخذها الحملة على الذهبي موضوعها المباشر لا تمكن مقارنتها الى جانب الهجمات التي نفذتها الجبهات الازوادية والمذابح الجماعية التي نفذها الجيش والميليشيات التابعة له. وثالثاً: لأن الحملة تأتي في وقت يجري فيه الاعداد للسلام.
وقال ماء العينين ولد بادي عضو اللجنة التنفيذية للجبهة العربية لـ “الوسط”: الحملة على الجبهة العربية سببها ان الجبهة كانت تحارب وحدها، نتيجة الاوضاع الصعبة التي كانت تمر بها الجبهات الاخرى، فالحركة الشعبية التي يقودها إياد آغ غالي خرجت عن تحالف الجبهات منذ اربعة اعوام، وتحالفت مع الجيش، والجبهة الشعبية اضعفها انشقاق رئيس جناحها السياسي والجيش الثوري انهكته الحركة الشعبية. لذلك كانت الحرب مع الجبهة العربية فحسب”. وأضاف ان الجبهة العربية داخلة في السلام بشروط، هي “ضمانات امنية حقيقية تقدمها اما الدول المجاورة، او منظمة الوحدة الافريقية، وتطبيق المعاهدة الوطنية بحذافيرها، وقبول ان غاندا كوي ليست طرفاً تجوز مشاركته في حوار، فالمشكلة هي مع الحكومة لا مع الصونغاي الذين يعيشون في المنطقة، فهم اخوة لنا، اما غاندا كوي فهي الوجه السري للجيش”. وارى ان على الجيش ان ينسحب الى قواعده الاصلية”.
ومع اصرار ولد بادي على ان الجبهة العربية موحدة، فان بوادر انشقاقات تلوح في الأفق ويلعب هو نفسه فيها دوراً ما. فهو في الاصل من الراديكاليين الذين يتزعمهم احمد ولد سيدي محمد الرئيس السابق للجبهة الذي كان يطالب باقامة “دولة عربية اسلامية ازوادية” مستقلة، وابعد الى الصفوف الخلفية متهماً بالتطرف، ودعمت السلطات المالية خصمه الذهبي ولد سيدي محمد الذي تُشهِّر به الآن. وتعتبر الحملة الحالية على الذهبي محاولة لاستدراج العناصر الراديكالية سابقاً لتكون بديلاً منه. وعلمت “الوسط” من مصادر مطلعة على الشأن المالي ان حكومة الرئيس كوناري تجري اتصالات مع ولد سيدي محمد وجماعته عبر ثري ازوادي يقيم في ياموسكرو، هو سيدي محمد العمراني المرتبط بصداقات قديمة مع جهات نافذة في الحكم.
ويبدي بعض الأزواديين قلقاً من ان تعمد الحكومة المالية الى ابرام اتفاق سلام مع الطوارق من دون العرب، او بشكل يهمش العرب. ويفسر بعضهم الحملة على الذهبي بأنها مقدمة لعزل الجبهة العربية في محاولة لتحويل الحرب الحالية حرباً عربية – طوارقية. وقال ولد بادي لـ “الوسط”: “هذا وارد فعلاً، هناك عقدة تاريخية، وتنافر ثقافي، وحروب قبلية قديمة بين العرب والطوارق، وهناك بعض الشباب المعقد من الحضارة العربية، وللموضوع صلة بما يحدث في بلد مجاور” يقصد الجزائر. وقال قيادي في الجبهة العربية لـ “الوسط”: السلطات المالية تلجأ دائماً الى هذه الاساليب، اذ حاولت التقارب مع العرب متجاهلة الطوارق العام 1992. وقدم الجيش سلاحاً الى الذهبي عندما كانت هناك خلافات مع الجبهة الشعبية الطوارقية، لكن الجبهة العربية رفضت. وبعد انهيار اتفاق السلام العام الماضي قربوا زعيم الحركة الشعبية الطوارقية إياد غالي ليحارب الجيش الثوري، وتضامنت الجبهات الاخرى مع الجيش الثوري، لكن الجبهة العربية رفضت ان تحارب غالي، وقالت نحارب الجيش المالي اولاً، فاذا انضم غالي الى صف الجيش حاربناه.
ويرفض قادة الطوارق هذه المخاوف من حرب بينهم وبين العرب. قال آغتام آغ الحسن احد قادة الجبهة الشعبية الذي عين اخيراً مفوضاً مساعداً للشمال، خلفاً لزعيم الجبهة العربية، في نطاق المحاولات الحالية لاحياء معاهدة السلام “هذا التفريق بين العرب والطوارق لا يمكن القبول به. الجبهة العربية لا تتميز عن الجبهات الاخرى، بالعكس الحكومة تعمل الآن على ادخال الجبهة العربية. لأنها تعرف انه ما لم يأت الجميع فلن يكون هناك سلام”. غير انه اكد وجود انقسامات في صفوف كل الجبهات قائلاً انها “اضعفت موقفنا من دون شك. وأصول هذه الانقسامات بعيدة الجذور”. وقال القائد العسكري للجيش الثوري لتحرير ازواد الخير آغ متكي انه لا يقبل احتمال اندلاع حرب عربية – طوارقية، لكنه رأى ان الحركات لم تعد لديها قوة تحقق بها اهدافها، نتيجة الانقسامات التي أدت الى مشاكل بين القبائل والأسر”.
احباطات وشعور بالعجز
قال رجل اعمال ازوادي يساند الجبهة العربية ويقيم في ليبيا لـ “الوسط” معلقاً على الحملة ضد الذهبي “هذه الحملة واضحة الملامح، وغبي من يظن ان الماليين جادون في السلام”. وأضاف رجل الاعمال الذي استغل الهدنة الحالية في زيارة خاطفة الى باماكو للاطلاع على الاوضاع: ما يحصل الآن حديث سياسي عن السلام في محاولة لكسب الرأي العام العالمي. ورفض اعطاء اسمه كاملاً بدعوى “ان الوضع ما زال على حاله، وأنا أشتم في المحاولات الجارية رائحة المؤامرة”. ولم يذكر رجل الاعمال اطراف المؤامرة في شكل مباشر لكنه يحمل على الجزائر وموريتانيا والطوارق.
وقال: “الجبهة العربية وقعت في خطأ عندما اعتقدت ان هناك من يقف معها، وهي الآن يائسة من الاعجام الاسم الذي يطلقه العرب على الطوارق ومن موريتانيا والجزائر وكل الدول العربية”.
وأضاف: “نحن قاتلنا مع الثورة الجزائرية، وفتحنا صندوقاً للتبرعات لصالحها، وكنا نستقبل الثوار بالاحضان، وكان محمد شريف مساعدية الامين العام السابق للحزب الحاكم في الجزائر يشرب الديقنو شراب محلي في منازلنا في تيمبوكتو وغاوو”. وذكر اسماء عدد من الازواديين “قاتلوا في الجزائر مثل الداه ولد الحطاب، ومولاي الحسن ولد مولاي عبدالسلام، والشيخ مولاي، الذين انسحبوا بعد استقلال الجزائر وعادوا من دون ان يطالبوا بشيء”. وأضاف: “بعد الاستقلال قسا علينا الجزائريون، اذ عندما نأتي في تجارة يسجنوننا ويطاردوننا”.
ورأى ان الموريتانيين بدورهم “عاملونا بقسوة واحتقار، وخذلونا ولم يقدموا المساعدة التي تمليها العلاقات بين شعبينا، وفوق هذا يضرب الموريتانيون اللاجئين عندما تقع سرقة في المنطقة ويضايقونهم”. وقال ان الازمة الموريتانية – السنغالية العام 1989 “كانت حدثاً اظهر فيه الشعب الأزوادي تضامنه مع اشقائه في موريتانيا، فقد جمعنا الاموال وقدمناها مساعدة وللأسف عندما طردنا من ارضنا وجئنا الى موريتانيا لم نجد شيئاً”.
ومع ان تصريحات عبدالله هذه لا تخلو من تحامل، فانها تعبر عن جانب من مشاعر الاحباط والعجز والخوف من المستقبل لدى الأزواديين عموماً، والعرب منهم خصوصاً. ويشعر هؤلاء بأن الآفاق مظلمة، وان الباب المفتوح الوحيد هو “باب الاستسلام”، والعودة دون ضمانات امنية او سياسية او اقتصادية”. وهو ما سماه المصرفي الطوارقي السابق يحيى آغ بن برهاي “السلام عبر القهر”.
وبرهاي هو ابن احد الزعماء الطوارق المعروفين، وهو من اطر المجتمع المدني الذين ينشطون منذ بعض الوقت لاقناع السود بأنه لا ينتمي الى حركات التمرد: “حاولت العيش مواطناً عادياً في بلدي لكن لعنة اللون طاردتني، فالمهم ان يكون لون المرء فاتحاً”. ولا يُكنُّ برهاي الكثير من الاحترام للجبهات الازوادية “التي اظهرت عجزها بعد ان طُحنَّا اقتصادياً وبشرياً” ويصف الحركات والجبهات الازوادية بأنها “معزولة عن المواطنين ولا تثق فيها الدولة, وهناك شعور بأنها جرّت المشاكل وعجزت عن مواجهتها، والآن يبحث كل واحد من زعمائها عن مركز يحتله في اطار سلام”. والحل الوحيد بنظره “التعامل مع الحكومة المالية والانسجام مع مكونات البلد الاخرى”، لكنه يرى ان “موضوع السلام لم يحسم بعد، ولم يَجْر حديث بعد عن اعماق المشكل”. ويقول “ان السود يعتقدون انهم حققوا نصراً كبيراً وليسوا على استعداد للتنازل، كما ان القطيعة بين العنصرين نهائية في بعض المناطق”. ويبدي برهاي الخوف من “اننا مهددون بالانقراض فقد حطمت الحرب وأعوام الجفاف انماط معيشتنا وتغيرت العقليات حتى اضحت نساؤنا يتزوجن بالغير. نحن نمر بمنعطف تاريخي خطر، وربما قُضي علينا”.
تفاصيل النشر:
المصدر: الوسط
الكاتب: الشيخ بكاي
تاريخ النشر(م): 4/12/1995
تاريخ النشر (هـ): 12/7/1416
منشأ: باماكو
رقم العدد: 201
الباب/ الصفحة: 26 – 27 – 28 – 29 – 30 – 31 – تحقيق – مالي – موريتانيا