الإيمراغن أصدقاء الدلافين.. الصيد احتفالات
المحيجرات (موريتانيا)- من الشيخ بكاي- (أرشيف)- جلس محفوظ وسط اكوام من الشباك “الخرساء” المتناثرة في يأس على الشاطئ يتأمل الامواج العاتية تتكسر على رمال الصحراء وقال: “لا حظّ لنا في هذا الموسم نحن الذين نعتمد على الشباك المحمولة على الاكتاف، ولانملك قوارب صيد تستطيع الغوص في الاعماق”. وأردف محفوظ الذي كان يتحدث الى “الوسط” في قرية المحيجرات احدى قرى الصيادين على الشاطئ الموريتاني: “اننا هنا نصارع الجوع والعطش، بينما تمتلئ جيوب الآخرين الذين كانوا الى الامس القريب يخافون البحر”.
ومحفوظ احد الموريتانيين القلائل الذين لازموا البحر منذ عقود، وامتهنوا الصيد فيما ظلت القاعدة ان يتنقل الموريتاني عبر مجاهل الصحراء مُتتبعاً المراعي ونقاط الماء. وهو بطبيعته يخاف البحر ويحتقر مهنة الصيد.
استوطنت مجموعة الصيادين التي تعرف باسم “إيمراغن” شواطئ الاطلسي منذ القدم، ومارست الصيد بوسائل بدائية وصفها الرحالة البرتغالي فالانتاين فيرناندس في القرن الخامس عشر، وما زالت مستخدمة حتى الآن. ويسكن “إيمراغن” (الكلمة بربرية ومعناها الصيادون ومفردها ” الـ “آمريغ”) في حوالي 12 قرية متناثرة على الشاطئ، يقع معظمها في “محمية حوض آرغين”.
ومثلما تجري المحافظة على الطيور والاسماك، تعمل الجهات الرسمية على ان يحافظ الـ “إيمراغن” على عاداتهم وأساليب الصيد المتبعة منذ القدم.
وقال المدير العام للحديقة الوطنية لحوض “آرغين” انغيدي ألسان لـ”الوسط”: “جرت العادة ان يتم اخلاء محمية كهذه من الانسان، الا اننا اعتبرنا “إيمراغن” جزءا من الوسط الطبيعي، ولذا فهم وحدهم المسموح لهم باستغلال الثروة السمكية في منطقة الحوض”. وتمنع النصوص المتعلقة بمحمية حوض “آرغين” ان تصطاد قوارب الصيد ذات المحركات في المنطقة، وهذا ما يعزز حظوظ الصيادين التقليديين، الا ان ضعف وسائل الحراسة جعل مناطق الـ”إيمراغن” هدفا سهلا امام الصيادين الاجانب.
وقال عمي ولد الديه وهو احد صيادي قرية “لمسيد” الواقعة على بعد 60 كيلومترا شمال نواكشوط: “كنا نبلغ السلطات بوجود صيادين اجانب وحدث مرة ان ساعدناها في احتجاز قارب صيد سنغالي افرجت عنه فيما بعد. وقد لاحظنا ان السلطات تتغاضى عن السينغاليين”. وأردف الصياد: “نحن نشعر بالخوف حينما نكون داخل البحر مع هؤلاء السنغاليين الذين يستخدمون قوارب صيد كبيرة ذات محركات باستطاعتها القضاء علينا في الأعماق حينما تصدر عنا اية حركة لا تعجبهم”.
علاقة عميقة مع البحر
يتميز الـ “إيمراغن” عن بقية الموريتانيين بهذه العلاقة العميقة مع البحر. ومنذ العصور القديمة يصنع الـ”مريغ” شباكه من أصواف الحيوانات والاشجار المحلية وينزل الى البحر مع آخرين في رحلة صيد قد تدوم يوما كاملاً ثم يعود الى الشاطئ لتتولى النساء تشريح الأسماك وتجفيفها واستخراج الدهون منها اضافة الى عمليات التسويق.
ومحدودية وسائل “إيمراغن” تجعل ما يفيض عن استهلاكهم قليلا، لكنهم عرفوا في الماضي نوعاً من التجارة الخارجية. وقالت محمودة، 75 عاماً: “كنا نبيع لأهل البادية ونسير قوافل حمير الى السنغال نحو 400 كلم. ومن أهل البادية كنا نأخذ اصواف الماشية وخيام الوبر في مقابل السمك، ومن السنغال يأتينا السكر والأرز والشاي”. لكن العلاقات مع العالم الخارجي لم تكن على الدوام جيدة، فقد ظل الـ “إيمراغن” عرضة لاعتداءات القراصنة والغزاة. وتقول محمودة وهي تغالب غصة: “معظم المسنين في هذه القرية لم يسلم من الاسترقاق او الاختطاف على الاقل وانا نفسي اتذكر ذلك اليوم الذي أطل علينا فيه من وراء هذه الكثبان مشيرة بيدها جيش من اللصوص” وتواصل سرد القصة: “كان عمري آنذاك 8 سنوات اتذكر اننا اتخذنا البحر ملاذاً.. كنا انا واختي على ظهر والدنا داخل الماء حينما صوب احدهم بندقيته آمراً بالخروج، والا قتلنا..”. وتضيف: “اخذونا مع الكثيرين، وقد خلصتنا جماعة كنا في حمايتها”. وتتذكر محمودة الأيام الخوالي قائلة: “هذا البحر ما عاد البحر والرجال لم يعودوا كما كانوا..”.
الصيد احتفالات
وتتم عمليات الصيد لدى الـ “ايمراغن” على شكل احتفالات حيث ينزل الرجال الى البحر جماعات وقد ربطوا شباكهم الى المناكب يرددون اغاني تمجد سمكة الدلفين صديقة الصياد ثم تبدأ عملية “التشييلة” وهي نداء استغاثة بالدلفين واشعار لها ان الصيادين في حاجة اليها. وتتلخص العملية في ضرب الماء بالعصي واصدار اصوات مبهمة.
وقال الصياد عبدي: “ما ان تسمعنا “جانه” (الاسم الذي يطلقونه على الدلفين) حتى تطل بوجهها وتبدأ في مطاردة الاسماك باتجاهنا”. وبمجرد وجود الأسماك في منطقة الشباك يحكم الصيادون والدلافين حصارا حولها بتشكل دائرة ترغمها على الوقوع. ثم تبدأ معركة اشتباك بالأيـدي يـتم خـلالها تكـسير رؤوس الاسـماك لـئلا تتمـكن من الـهرب، فضلاً عن استجابة معتقد راسخ بأن إسالة دم السمكة في البحر يخصبه.
وفي العصور الحديثة اضاف الصيادون الى تقاليدهم القديمة استخدام المراكب الشراعية التي باستطاعتها التوغل داخل مناطق الصيد البعيدة عن القرى، وتمكن الـ”إيمراغن” من متابعة سمكة “البوري” في هجرتها الدؤوبة. وتشكل هذه السمكة الآن الأساس الاقتصادي لحياة هؤلاء. وقد وضعت السلطات برامج لتطوير الصيد “التقليدي” واقترحت على الـ “إيمراغن” تشكيل تعاونيات تسهل حصولهم على تجهيزات في اطار التعاون الدولي. ومع ان بعض الصيادين استطاع الحصول على قوارب صيد ذات محركات او بدونها، فان الـ”إيمراغن” يبدون استياء شديدا مما يصفونه بتحويل سيل المساعدات الدولية المخصصة لهم الى جهات اخرى. وقال رئيس قرية “إيويك” البخاري ولد عبد الفتاح: “عاشت آذاننا بالوعود، اما على مستوى العمل فالانجاز بسيط”… “حصل البعض على تجهيزات يسدد اثمانها بالتقسيط، من ضمنها قوارب شراعية في المناطق المحظورة على المحركات، وقوارب محدودة من ذوات المحركات خارج منطقة المحمية”. ويضيف البخاري: “هناك من يتحدث باسمنا زوراً ويحصل على كل شيء”. ويتهم الصياد رجال الاعمال بالاحتيال على المساعدات الدولية التي تصل باسم الـ “إيمراغن”.
و تتولى وزارة الصيد الموريتانية استقبال المساعدات وتنظيمها وتبيع التجهيزات للصيادين لتستعيد ثمنها بالتقسيط على آجال لا تتجاوز في الغالب 4 اعوام. كما تنظم دورات تدريبية للصيادين ويقول الصيادون ان الاستفادة من تعاونياتهم محدودة، وثمة تعاونيات لم تمارس اي نشاط. ولا تفهم غالبية “إيمراغن” دور التعاونية لكن الجميع يتفقون على وجود مساعدات “لا تصل”.
ويشتري الصيادون القوارب بشكل جماعي في حدود 15 شخصاً للقارب الواحد. وتحل قوارب الصيد لهؤلاء مشكل ابتعاد الاسماك في مواسم معينة الى مسافات لا يمكن الاصطياد فيها عموماً لكن الغالبية لا تزال تواجه المشكل خصوصاً في المواسم التي لا توجد فيها الا الاسماك الكبيرة.
وعلى رغم اكتشاف الـ”إيمراغن” اسرار المحيط الاطلسي على مر العصور، فانهم يواجهون الجوع هذه الايام، وتكاد عمليات الصيد تقتصر في بعض مواسم هذه المرحلة على سمك القرش الكبير الذي لا يأكله الموريتانيون، ويبيع الصيادون اطرافه لمن يصدرونها الى الخارج بسعر ثلاثة آلاف أوقية موريتانية للكيلوغرام الواحد علماً ان ما يصطاده الـ”إيمراغن” من هذه السمكة في الغالب في اليوم محدود جداً.
وقال بالله ولد بيياه: “تمتد فترة العطلة ثلاثة اشهر نعاني خلالها المجاعة ونعتمد في الوجبتين الرئيسيتين على ما نشتريه من لحوم من العاصمة 100 كلم .. ويضيف الصياد الذي تحدث الى “الوسط” في قرية تيويليت شمال نواكشوط: “من النادر وجود سيارات مغادرة واخرى عائدة بسهولة، ولذا فان تموين السوق يتوقف على المصادفة”.
ولا يمارس “إيمراغن” في العادة نشاطات غير الصيد، وحتى المحلات التجارية الصغيرة التي فتحتها تعاونياتهم يقوم عليها غيرهم.. ووصف صياد من قرية المحيجرات شعور الـ “آمريغ” في موسم “البطالة” قائلاً: “يصيبني قلق لا يطاق بسبب هذه الجلسة بلا عمل، ومنظر شباك الصيد ملقاة على الشاطئ”.
أزمة ماء ايضا
واذا كانت حالة الجوع موسمية فان هناك ازمة دائمة، هي ازمة الماء. ذلك انه على طول الساحل نحو 300 كلم يعتمد السكان على براميل ماء يستوردونها من نواكشوط او نواذيبو على الحدود مع الصحراء الغربية. وتعتمد كل قرية الاسلوب الذي يناسبها في توفير الماء وتسيير مخزونه بشكل جماعي، ففي حين اهتمت هيئات خيرية ببعض القرى اعتمدت اخرى على البحرية الوطنية. ويقول سكان قرية “إيويك” ان إهمال احدى المنظمات الخيرية عرضهم لأزمة عطش خطرة.. ذات مرة ـ وقال رئيس القرية لـ”الوسط”: “كنا سنهلك لولا نداءات استغاثة وجهناها الى جهات مختلفة، فقد انقطعت امدادات الماء لمدة عشرة ايام بسبب غياب موظف فرنسي في اجازته السنوية”.
ويشرح البخاري: “تعهدت “المنظمة الدولية لحوض آرغين” امداد القرية بالماء، وتم لهذا الغرض شراء صهريج ينقل الماء، لكنه اختفى فجأة وعلمنا فيما بعد ان الفرنسي دومينيك الذي يرأس المنظمة اوقف الصهريج حينما أراد الذهاب في اجازته”. ويضيف “انقذنا زورق للبحرية الوطنية باع لنا برميل الماء بالسعر الذي كنا نشتري به”.
وتتراوح الأسعار التي تبيع بها البحرية الوطنية والمنظمات الخيرية برميل الـ200 ليتر بين 400 و800 اوقية وتتولى التعاونيات في بعض القرى شراء الماء، وتضعه في خزانات من الاسمنت لتعيد بيعه للسكان ولم يعرف اطفال “إيمراغن” طريقهم الى المدرسة الا في الاعوام الاخيرة.
ومن النادر ان يواصل الـ”آمريغ الصغير” تعليمه بعد المرحلة الابتدائية. ويبـدو ان السكان لا يشجعون تعـليم الاطـفال مـخافة ان يتخـلوا عن مهنة الصيد التي يقدسـونها الى درجـة انهم لا يزوجون بناتـهم الا للصـيادين. ويبـدي الشـيوخ مخاوف من ان تطغى اساليب الصيد الحديثة على القديمة. وقال العجوز محمود وهو يمسك بأصابع اليد خيوطا ربطها في اصابع قدمه ناسجاً شبكة صيد استعداداً للموسم: “القوارب الجديدة أفسدت علينا، وزهدت الكثيرين في الوسائل التي كنا نستخدمها، واستخدمها من قبل الاجداد”. ويضيف العجوز: “المشكلة ان اولادنا يفضلون الوسائل الحديثة لأنها اسهل وتمكن العاجز من اخفاء عدم الرجولة”.
ويعتقد “إيمراغن” ان سفن الصيد الصناعي “لعنة حلت بالبحر وأدت الى افقاره “ونحن نخاف ان يجف بسببها” كما يقول محمود.
ولرئيس قرية “إيويك” وجهة نظره في شأن الصيد الصناعي ورجال الاعمال: “يعرف الجميع ان الاسماك في تناقص دائم، والسبب هو هذا الاستنزاف الذي تقوم به بواخر الصيد الكبيرة”. ويشرح: “رجال الاعمال يأتون ويصدرون للخارج لكنهم يفسدون البحر بالشباك الكبيرة التي تقتل صغار السمك وتمحق البيض، وسفنهم تلوّث البحر” ويضيف: “ومن سيئات هذه السفن انا ننشر شباكنا ليلاً فنأتي لتسرق محتويات بعضها وتقطع البعض الآخر” >
تفاصيل النشر:
المصدر: الوسط
الكاتب: الشيخ بكاي
تاريخ النشر(م): 29/3/1999
تاريخ النشر (هـ): 12/12/1419
منشأ: حوض آرغين – موريتانيا
رقم العدد: 374
الباب/ الصفحة: 42 – 43 – 44 – 45 – 46 – 47 – تحقيق