البناؤون والطيانون يشتكون غزو الخرسانة المسلحة للقرى
الرشيد (موريتانيا)- من الشيخ بكاي- يجلس البناء امدو ولد حنبل ساعات طويلة عند قاعدة المرتفع الجبلي المتآكل بفعل يد الانسان وسياط الريح… يحرك المطرقة في شكل آلي وبدقة متناهية وحنان يجعلك تعتقد ان الذي بين يديه ليس صخرة صماء، بل كائن يحس.
ولا يجد ولد حنبل مشقة ظاهرة في تشذيب الحجارة، فهو معتاد على هذا العمل منذ كان صبياً. لكن المشكل هو البطء الكبير الذي يتطلبه الاتقان. وفي العادة لا يهتم أهل القرية بتزين الحجارة إلا في حالات نادرة. فالمهم أصلاً ان تكون متوازنة صالحة للثبات اثناء إقامة الجدران. لكن التنافس المحموم بين المصادر المحلية من حجارة وطين، وبين الاسمنت والحديد الوافدين، جعل أهل الحرفة يهتمون بتطوير الشكل.
يقول البناء الماهر لـ “الوسط”: “كان عملي ينحصر في عملية البناء نفسها والمسؤولية عن المبنى، أما الحجارة والطين والسقيفة فهذه أعمال أكلف بها غيري، اما الآن فقد صار عليّ تزيين الحجارة، فليس هناك من يتقن هذه الحرفة أكثر مني”.
يبني سكان الواحات الموريتانية بيوتهم بالحجارة وتطلى الجدران بالطوب الأحمر. وتقام السقوف بجذوع النخل وحشائش “السبط” (نبات محلي). ويزين السقف بعيدان عراجين البلح (الزوان)..و تثبت العيدان في شكل مثلثات ومربعات.. ويغطى السقف بالطين الذي يمنع من جهة تسرب مياه المطر، ومن جهة ثانية يوفر الظل والبرودة صيفاً.
وفي المناطق غير الجبلية، والتي لا يوجد فيها نخيل، يصنع اللبن من الطين وتقام الجدران ثم تطلى بالطوب الأحمر المخلوط بــ”روث” البقر. اما السقوف فتقام من سيقان الشجر والحشائش وتزخرف بالأعواد البيضاء.
وتصمد البيوت المبنية بالحجارة نحو مئة عام. لكن سكان القرى ذات البيوت الطينية قد يجدون أنفسهم مضطرين لتجديدها سنوياً بعد هطول المطر.
وخلال الأعوام الأخيرة دخل الاسمنت القرى الريفية فهدد مصادر رزق كثيرين. وكانت المقاومة هشة في المناطق التي تعتمد على الطين. أما في المناطق الجبلية فكانت المقاومة شديدة، إذ إن الجدران المقامة باللبِن المصنوع من الطين تنهار كل عام تقريباً ما جعل استخدام الاسمنت – ولو من دون حديد – فتحاً جديداً يجنب السكان عملية بناء سنوية تكلفهم كثيراً.
أما بالنسبة الى المناطق الجبلية فقد انتشر استخدام الاسمنت على نطاق واسع في طلاء البيوت بدلاً من الطوب الأحمر وهي خسارة للطيانين. لكن أصحاب الحجارة كانوا أقل تأثراً. إلا ان الخرسانة المسلحة مع هذا تغزو القرى الريفية عموماً.
ويبدي المهتمون قلقاً متزايداً من ان يؤدي تهالك بعض المحظوظين من سكان الريف على التميز عن غيرهم الى تغيير شامل للنمط المعماري، وإفقار أعداد كبيرة من البنائين ومساعديهم، وأصحاب مقالع الحجارة.
وقال البناء امدو لـ”الوسط”: “الآن نبذل جهوداً مضنية في تزيين الحجارة لإعطاء البيوت مظهراً خارجياً أجمل لئلا يتحول أهل القرية الى الاسمنت والحديد”.
ويقول إمدو ان المقارنة غير واردة بين البيوت المبنية بالاسمنت وتلك المبنية بالحجارة، فالأخيرة أجمل وأشد صموداً وأقل كلفة”.
ويأخذ امدو على ابناء القرى الذين يقيمون في المدن فترات ويعودون بفكرة التحول عن الحجارة والطين “هذا التقليد الأعمى الذي جعلهم يستوردون نمطاً معمارياً غريباً الى القرى بهدف التفاخر”.
ويعمل أصحاب المقالع الحجرية على الحفاظ على مصدر رزقهم من خلال تحسين الانتاج، وايضاً من خلال التصدير الى المدن الكبرى غير الجبلية حيث تعتبر الحجارة سلعة نادرة.
وفي اطار الغزو المضاد لحواضر الاسمنت والحديد تستقبل مدن كبرى منها العاصمة نواكشوط، الحجارة المزينة وبأسعار غالية. وتشتهر مدينة “عيون العتروس” في شرق البلاد بجودة الحجارة وجمالها.
وقد تتداخل في الحجرة المشذبة الواحدة ثلاثة ألوان هي الابيض والبني والأزرق الداكن.. وتستخدم الحجارة المشذبة في الجدران الخارجية وواجهات القصور في المدن، وهي تعطي رونقاً نادراً. وتكلف الشحنة من الحجارة المشذبة نحو 700 دولار اميركي، الا ان الاغنياء فقط هم القادرون على استخدامها في المدن الكبيرة، ما يجعل السوق لا تستوعب سوى قدر محدود منها.
وفي القرى الجبلية الصغيرة لم تعد للطلوب الأحمر الجميل تلك المكانة التي كانت له، فقد أصبح الاسمنت يستخدم في الربط بين القطع الحجرية التي تقام بها الجدران.
وفي البداية استخدم الاسمنت كما كان يستخدم الطوب في طلاء الجدران، الا انه منذ فترة ولأسباب اقتصادية وجمالية، لم يعد الاسمنت يعمم على الجدار، ويوضع فقط على أماكن التقاء القطعة الحجرة بالقطعة كنوع من الربط. وبذا تبقى الحجارة ظاهرة في الواجهة مما يعطي جمالاً ورونقاً، ولكن بما يقلل كمية الاسمنت المستخدمة.
ويستخدم بعض السكان الاسمنت والحديد في تشييد الجدران، لكنهم يستخدمون في تشييد السقف مواد محلية. وهناك من يستخدمون الاسمنت والحديد في تشييد الجدران التي تفصل الغرف بعضها عن بعض، لأنها أصغر سمكاً، ويستخدمون الحجارة في الجدران الخارجية.
ولتكييف هواء المنازل في درجة حرارة مرتفعة صيفاً الى ما يقارب 50 درجة مئوية، يعمد سكان الواحات الصحراوية الى انتهاج أساليب خاصة. ومنها فتح عدد من النوافذ الصغيرة المتقابلة في شكل يسمح بمرور التيار الهوائي وتفتح كل النوافذ ليلاً لامتصاص البرودة وكذلك في ساعات الصباح الأولى، لكن تغلق في الزوال حتى لا تتسرب منها اشعة الشمس الحارقة. وتصنع سقوف المنازل بشكل يوفر البرودة، اذ توضع أكوام من حشائش “السبط” وتنسج “حصائر” من أغصان النخيل تغطي سقف البيت، ويوضع فوقها الطين والرمل.
ويؤثر التوجه نحو استخدام الخرسانة المسلحة في البناء على فئات عدة من سكان الواحات، هي: البناؤون الذين لا يعرفون إلا بناء الحجارة والطين والذين يصعب عليهم اتقان البناء بالمواد الجديدة. وهناك أصحاب “المقالع” الذين يتولون تكسير الحجارة مستخدمين المطارق والنار والمفرقعات أحياناً. ويبيع هؤلاء الحجارة أو يعملون لغيرهم فيها في مقابل أجر يومي. وهناك “الحمّالة” الذين ينقلون الحجارة على حميرهم من “المقالع” الى مكان المبنى الذي يشيّد.
ومن هذه الفئات ايضاً “الطيانون” ويحفر هؤلاء بين الصخور في “مقالع” الحجارة غالباً لجمع الطين ونقله على ظهور الحمير. وهناك مهتمون آخرون يمونون السوق بالمواد التي تستخدم في اقامة السقوف، منهم عمال النخيل الذين يبيعون مواد تستخدم لتجميل السقف من الداخل، وكذلك جذوع النخل والسعف التي تكون أساساً للسقف. وهناك آخرون يأتي بعضهم بالحشـائش البريـة للاستخـدام في السقـف أيضاً..
تفاصيل النشر:
المصدر: الوسط
الكاتب: الشيخ بكاي
تاريخ النشر(م): 27/4/1998
تاريخ النشر (هـ): 1/1/1419
منشأ: موريتانيا
رقم العدد: 326
الباب/ الصفحة: 66 – 67
13 تعليقات