صراعات عرقية وعنصرية تهدد إصلاحات موريتانية
نواكشوط- من الشيخ بكاي_ بعد اكثر من شهرين على الانتخابات الاشتراعية والمحلية تعززت الثقة بالرئيس الموريتاني معاوية ولد سيد احمد الطايع. لكن التجربة التعددية عادت خطوة الى الوراء بحظر السلطة حزب “العمل من اجل التغيير”، وهو أحد أهم أحزاب المعارضة واقواها حضوراً في البرلمان الجديد.
شكلت انتخابات تشرين الاول اكتوبر الاخيرة علامة بارزة على طريق العمل السياسي الموريتاني حين اعطى ولد الطايع تعليمات صارمة وواضحة الى الادارة وقادة الحزب “الجمهوري الديموقراطي” الحاكم، بالامتناع عن أي نوع من انواع التزوير، والتلاعب وقبول التنافس على مقاعد البرلمان والمجالــــس المحلـــــية.
وادخل نظام النسبية الى الانتخابات في المدن الكبرى لاعطاء المعارضة حظوظاً اكبر في دخول البرلمان لا يوفرها النظام المعمول به، وفتح وسائل الاعلام الرسمية امامها. اضافة الى ادخال اصلاحات اخرى، منها فرض بطاقة هوية غير قابلة للتزوير لمنع التصويت المتكرر، ومنح مساعدات مالية سنوية للاحزاب السياسية، ومنع الترشيحات من خارج الاحزاب.
وعلى رغم ان الاجراء الاخير بدا كما لو كان حدا من الحرية فإنه خدم احزاباً سياسية هشة كثيراً ما عانت من ظاهرة المرشحين المستقلين في المناسبات الانتخابية. وبفضل هذه الاصلاحات تمكنت المعارضة للمرة الاولى من دخول البرلمان وقيادة عدد من البلديات والحضور القوي في بعضها الآخر.
ومع افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة شعر الموريتانيون بقدر كبير من الارتياح وهم يتابعون للمرة الاولى نقاشات حرة ومفتوحة داخل اروقة البرلمان، ومساءلات النواب للوزراء، غير انه لم يمض بعض الوقت حتى اصبح كثيرون يحسون ان شيئاً ما سيحدث، وذلك بعد اتجاه النقاش داخل الجمعية الوطنية، الى نبش موضوعات يعود بعضها الى العهد العسكري، مثل مضاعفات النزاع مع السنغال في 1989، وموضوع العبودية. وهي “مسائل حساسة، اجتماعيا وعرقيا من جهة، ولا يقدم نقاشها الآن اي فائدة عامة” كما يرى البعض.
وتتبادل السلطة والمعارضة اللوم في هذه الارتكاسة، وتحمل كل منهما الأخرى المسؤولية. ففي حين اعتبر مسعود ولد بلخير حل حزبه “قرارا تعسفيا ظالما يبرهن على ضيق السلطات بالاثارة الصريحة للمشاكل الحقيقية للبلد”، قال وزير الاتصال شياخ ولد علي ان القرار كان “نتيجة حتمية لممارسات الحزب المنافية لروح الديموقراطية، واستهزائه بالنصوص المعمول بها، وبمصالح البلد العليا، واستغلاله الرخيص للاصلاحات السياسية في التحريض، والدعوة الى العنف والفتنة”.
واضاف ولد بلخير لـ”الحياة” انه يتحدى من يثبت انه انتهج “خطابا عنصريا تحريضيا”. واوضح ان حديثه داخل البرلمان بث على شاشة التلفزيون الوطني “وهو لا يحمل دعوة الى العنف… والواقع انهم مستاؤون من بحث القضايا الشائكة، مثل العبودية، والمشكل الثقافي، ومضاعفات احداث 1989”.
غير ان الحكومة ترى ان “إحجام مسعود وزملائه في البرلمان، عن الدفاع عن مصالح من انتخبوهم في دورة برلمانية مخصصة لنقاش سياسة الحكومة للسنة الجارية، والاقتصار على اثارة موضوعات غير مطروحة في جدول الاعمال، والتركيز عليها خلال اسبوع، امر ينم عن سوء نية”.
وليس جديدا على حزب “العمل من اجل التغيير” الحديث عن العبودية واهتمامات بعض المتطرفين من السود، فالحزب يتألف من الجناح الراديكالي في حركة “الحر” السرية السابقة بقيادة مسعود ولد بلخير، وأحد أجنحة “قوات التحرير الافريقية” المتطرفة ويقود هذا الجناح صار ابراهيما وهو برلماني ايضا ويحتل في حزب العمل منصب الامين العام المساعد.
وتعتبر حركة “الحر” السرية السابقة منظمة اجتماعية تهدف الى تحسين الظروف الاجتماعية لفئة “الحراطين” (عرب سمر تعود اصولهم البعيدة الى عهود الاسترقاق)، ولا تشكل خطراً على الثوابت الاساسية للدولة. ويحتل معظم قادة الحركة مناصب عليا في الحكومة وفي الادارة.
وكان مسعود مثل زملائه وزيراً، وقاد لفترة طويلة محافظات مختلفة في البلاد وهو منصب لا يحتله الا من كان ينال الثقة. واتجه ولد بلخير بعد خروجه من الحكومة الى استغلال المطالب الاجتماعية لـ”الحراطين” فحصد قدرا من الشعبية في اوساطهم. ويتهم مسعود من طرف خصومه بالتهريج. ويشير الخصوم في هذا الصدد الى ان الرجل الذي لم يعرف الرق ابداً “لا يتورع عن البكاء في بعض مهرجاناته وهو يروي حكاية عن معاملات اسياده المزعومين لأمه”.
ويأخذ البعض على الرجل ما يصفه باختلاق “مشكل غير قائم الآن لاستغـــلاله في اغراضـــه السياسيـــة”.
ومارس الموريتانيون نظام الاسترقاق في الماضي، وظل هذا النظام موجوداً بطريقة او اخرى حتى عهد قريب، لكن الحديث عن وجوده الآن “لا يتسم بالموضوعية”. ويعترف الكل بوجود حقيقة واحدة هي تدني المكانة الاجتماعية للمنحدرين من الأرقاء السابقين في المجتمع. وهي نظرة تحول مثلاً بينهم وقبول الفئات الاخرى تزويج بناتهم منهم. مع ان زيجات من هذا النوع بدأت تحدث في المدن الكبرى. وعموماً هناك قبائل لا تتزوج من قبائل اخرى. ومن بقايا الاسترقاق ايضاً بعض علاقات التبعية القائمة بين بعض “الحراطين” وابناء اسياد الامس، وهي علاقات تتحكم فيها الجوانب المادية ولن تتغير الا بتحسين اوضاع الفقراء عموما.
ولعل الجناح الآخر في حزب العمل وهو المنحدر من جماعة “حركة تحرير الافارقة السود في موريتانيا” اكثر حساسية وخطرا. فعلى رغم انه لا يتبنى بعض الطروحات المتطرفة للحركة مثل طرد العرب من موريتانيا التي تعتبرها حركة “فلام” ارضا افريقية غزاها العرب واحتلوها، فإن خلفيات الاعضاء السابقين تبقى مؤثرة جدا في الحزب، وهذا ما يفسر اصراره على فتح موضوعات مر عليها 13 عاماً هي مضاعفات النزاع الموريتاني السنغالي الذي لعبت فيه “قوات تحرير الافارقة السود في موريتانيا” دورا كبيرا، حين دقت طبول الحرب العنصرية مع بداية الأزمة، ومهدت لها في منشورات ومقالات في الصحف السنغالية.
وتتهم الحكومة الموريتانية “فلام” بالتسبب في المذبحة التي وقعت في السنغال وراح ضحيتها مئات من الرعايا الموريتانيين العرب في هذا البلد، كما نهبت ممتلكات الجالية الموريتانية هناك.
وعماد “فلام” لاجئون موريتانيون سود وأفارقة متجنسون وميليشيات مسلحة ظلت لسنين تنطلق من السنغال وتعتدي على القرى الموريتانية الحدودية، وتدعو الى اسقاط النظام بالقوة المسلحة، واقامة نظام للسود. وتقلص نشاط هذه الحركة بعد الصلح الموريتاني السنغالي. وفتحت موريتانيا الحدود امام الذين طردتهم من سنغاليين متجنسين وموريتانيين سود طردوا او هربوا من المواجهات العرقية الى السنغال.
وتتهم الحكومة “فلام” بأنها تعمل من خلال حزب “العمل” لاعادة تجربة مماثلة لما حدث في 1989. وردت هذه التهمة على لسان الوزير الاول شيخ العافية قبل اسبوع أمام البرلمان، غير ان السلطات لم تعط معلومات أكثر كما لم تقدم ادلة.
ومهما كانت الحقيقة فإنه على رغم شعور كثيرين بخيبة الامل والاستياء الواسع من حظر الاحزاب، فإن هناك ايضاً شعورا بأن تحويل الجمعية الوطنية لمدة أسبوع الى مكان لنبش ماض بغيض، امر مثير للسخط في معظم الاوساط الموريتانية باعتباره يهدد بدفع البلاد الى هاوية الكراهية، والصراع العرقي، والاجتماعي.
تفاصيل النشر:
المصدر: الحياة
الكاتب: الشيخ بكاي
تاريخ النشر(م): 6/1/2002
تاريخ النشر (هـ): 22/10/1422
منشأ:
رقم العدد: 14172
الباب/ الصفحة: 4